قراءة في كتاب فرسان الفن حول قصص حياة الرسامين الإيطاليين
للمؤلفة إيمي ستيدمان
ليوناردو دافنشي ١٤٥٢ ـ ١٥١٩م .
المدينة الصغيرة فنشي تبدو من بعيد كعش طائر متعلق بالصخور على منحدرات مونت ألبانو بين فلورنسا وبيزا ، هنا وفي العصر الذي كان الناس يتنبأون بالنجوم ولد في عام ١٤٥٢م ليوناردو ابن السيد بييرو دافنشي ، طفلا غريبا في كل شيء حتى في جماله كان له شعر يرفرف ويسقط متموجا كماء في نافورة من الحرير بلون الذهب وعيناه زرقاوان كالزرقة التي تعلو جبال الجليد ، كان مرحا ضحوكا محببا للجميع لكن الجدة مونا لينا التي ربته دللته كثيرا .
كان والده محاميا وحاول ان يعلمه بعض الدروس واكتشاف ما يناسب الصبي ، لكن ليوناردو كره هذه الدروس ولم يستسيغها حتى بعد إرساله للمدرسة ، شق عليه تعلم اللاتينية ، وشق عليه مسايرة اقرانه بالعابهم الخشنة والسمجة .
اختار لنفسه مكان بين الطبيعة يرى من خلاله كيف تتحرك الأغنام بين العشب وكيف تنسج العناكب خيوطها ومشاهد الفراشات والنحل الطنان والسحالي والطيور ، وراح يسأل عن سر القوة في أجنحة الطيور ، هذا هو السر الخفي الذي من أجله أراد ان يتعلم كل شيء في الطبيعة وارتباط بتلات الزهرة عندما ينزع منها واحدة ، كل هذا كان يوازيه غياب عن المدرسة واتساخ وتمزيق لملابسه وإن كان دلال جدته له لن يعفيه من عقوبة وجلد والده له الذي قرر ان يغلق عليه احد الغرف ليشعر بالسجن التأديبي لكنها كانت فرصته ليخلو لنفسه ولأسئلته التي يبحث عن إجابات لها ، ووجد ضالته في تعلم الحساب وحل العديد من المسائل التي ادهشت الاساتذة ، لقد بدا عقله تواقا لطلب النور ولم يكتف ولم يشبع .
بدأ حب الموسيقى يستولي على قلبه ، ولم يهدأ حتى نجح في الحصول على آلة العود وتعلم كيفية العزف عليها وتعلم النوتة والقواعد الموسيقية والغناء ، وأصبح لغزا محيرا للجميع فبينما يمسك ثعبانا أو عنكبوتا ويبدوا همجيا تراه رقيقا ملائكيا يغني .
وعندما بلغ الثالثة عشر أخذه والده لفلورنسا ليتدرب على عمل ما وكان الصبي يتقن أشياء عدة ومن الصعب أن يثبت على واحدة منها ، ولعل أغرب ما يمكن ان تعرفه عن ليوناردو أنه ذهب بنفسه ليطرق باب العالم الفلكي توسكانيللي حيث يسأله عما يريد فيجيب بكل ثقة : سأتعلم كل ما تستطيع أن تعلمني إياه .
كان بيير والد ليوناردو غير سعيد بكل هذا فهو يبحث للابن عن علم أو مهنة تدر عليه دخل ، ولذلك قرر ان يجمع رسومات ليوناردو المبعثرة والمشتتة هنا وهناك وذهب بها إلى الرسام فيروتشيو الذي تفحص الرسومات بعينين سريعتين وإهتمام عميق وقال : أرسله إلىّ في الحال .. فإن لديه موهبة رائعة .
دخل ليوناردو المرسم وتعلم أشياء كثيرة، لكن فيروتشيو لم يعجبه الحالة التي يتنقل بينها الولد لم يكن كسولا ولكن يتنقل بين الرسم لعمل حيوانات من الطين والتفكير في سر الطيران ، وعندما اصر استاذة على ان يقدم عملا ويستكمل صورة امسك الفرشاة بيسراه وعمل على إنجازها بدقة وكانها كانت موجودة وهو يزيل عنها الغبار فقط .
وعندما خرج للطريق ووجد متجرا يعلق اقفاص الطيور وسأله ليوناردوا إذا كان يبيع تلك الطيور فقال : إنها قد تموت قبل ان يتمكن من بيعها فاشتراها منه جميعها واطلقها في الفضاء ، وهو يأمل ان تجود عليه يوما تلك الكائنات وتبوح له بسر الأجنحة ، والرجل ينظر إليه ليتفحص أي نوع من الجنون هذا .
وقصص ليوناردوا الجميلة حول تجاربة في الرسم على التروس والستائر الحريرية المذهبة وصناعة آلات الموسيقى ، وجاءته الفرصة للخروج من بلاط لورينزو لشعوره بضيق المكان ، ولانه ليس محبوبا عنده مثل فيليبينو ليبي وبوتشيللي .. عندما طلب منه لورينزو الذهاب إلى ميلان حاملا آلة العود التي صنعها ليوناردو لتكون هدية للودفتشو سفورزا دوق ميلان ، فانطلق ليوناردو وهو يشعر بالتحرر من الحياة الضيقة في المرسم الفلورنسي .
وقبل الإنطلاق إلى ميلان كتب خطابا للدوق يشرح فيه الأشياء التي يمكنه عملها (CV) في زمن السلم والحرب ،ويبدو أنه لا يوجد شيء لا يستطيع فعله ، علما بانه قد كتب الخطاب بطريقة عجيبة وهي من اليمين لليسار مثل الكتابة العربية وباليد اليسرى ولا تستطيع القراءة إلا عن طريق مرآة .
اندهش الدوق عندما وصله الخطاب قائلا : إما أن هذه الكلمات لعبقري أو مجنون !
افتتن كل من بالقصر بصاحب الوجه الجميل والعزف المنفرد والغناء العاطفي الساحر ، وادرك الدوق أنه أمام شخص نادر وخصص له منزلا وراتبا يتسلمه سنويا ، ولم يعبأ ليوناردو كثيرا ان يكون لديه اشياء ثمينة أو مجوهرات وإنما ترتيب المكان ونظافته ومعطفه الأحمر الداكن تمشيا مع السائد لأهل فلورنسا كما كان لديه في الحظيرة بعض الجياد التي أحبها أكثر من أي كائنات آدمية .
اسند إليه الدوق العديد من الأعمال لاسيما عملين عظيمين هما العشاء الأخير على جدران قاعة الدرس في سانتا ماريا ديل جريز ، والآخر هو صنع نموذج لتمثال فارس يمتطي جوادا من البرونز وفي الخلفية صورة الدوق .
ظل ليوناردو يعمل بجد في لوحة العشاء الأخير من الفريسكو واحيانا ما ينصرف عن العمل لاسابيع أو شهور دون أن يلمسه ! ولكنه يعود ليعمل من جديد لأيام متواصلة ، وكذلك العمل في تمثال البرونز لأن عقله يعمل في المفتاح السري في علم وفن الطيران الذي ملك عليه روحه واحلامه وقدره .
ما ان اكتمل العمل في لوحة العشاء الأخير وقرب اكتمال التمثال اضطر الدوق للهرب قبل ان دهمه الجنود الفرنسيون الذين اقتحموا المدينة وتمركزوا فيها قبل ان يمنعهم أحد ، وبدأوا يطلقون مدافعهم على التمثال العظيم كهدف لمرمى اسلحتهم ، ووفي ساعات قليلة تم تدمير تمثال استمر العمل فيه لستة عشر عاما .
والأكثر ايلاما أن اعمال الفريسكو والصورة الأعظم اتلفتها الرطوبة بقتامة الالوان ، حتى ان الرهبان المهملين اخترقوا الجدار وصنعوا مدخلا في منتصف الصورة تماما، واستكمل العبث جنود نابليون باستخدام القاعة كإسطبل لخيولهم وتسلوا بالقاء الحجارة على ما تبقى من رسوم الحائط.
ولجأ ليوناردو في تلك الأوقات لزيارة صديقة جيرولامو ملزي وكان لصديقه والد اسمه فرانسيسكو يتيم الأم وكان معجب باعمال ليوناردو ومتعلق به جدا ، وفي يوم الوداع تعلق الولد برقبة الأستاذ وقال له : خذني معك ، لكن لوناردو قال الوقت غير مناسب وانت مازلت صغيرا، وبدأت حياة تسكع متعبة ، وقد عاش فترة في روما ولكنه انجز القليل ، وعاش بعدها لسنوات عدة في فلورنسا وبدأ يرسم صورة معركة ضخمة .. وهناك رسم لوحته الشهيرة الموناليزا، والتي يقول عنها النقاد أنها أروع وأكمل صورة على الإطلاق على الرغم من أن ليوناردو نفسه قال بأنها ليست كاملة ولم تنته بعد .
لقد ذهب كل تلاميذه ونسيه كل أصدقائه ، وذات ليلة عاصفة كان جالسا أمام المدفأة حزينا وحيدا عندما فتح الباب غلام طويل ووسيم انحنى راكعا وقبل يدى الرجل المسن وقال :
ـ ألا تعرفني .. إنني فرانسيسكو الصغير ، جئت لتفي بوعدك أن أكون يوما خادمك وتلميذك .
تأسف ليوناردوا لحاله وقال انه لن يستطيع ان يفي بوعده فقد اصبح فقير يتجول هنا وهناك ، ولكن الفتى اصر على ان يبق معه ويشاركه احواله وييكون بصحبته إلى آخر الدنيا .
لذا فحين تلقى دعوة من ملك فرنسا الجديد أخذ الصبي معه وبنيا معا منزلهما في القلعة الصغيرة كلاكس قرب مدينة امبويز ، أضحى شعر الاستاذ فضيا ولحيته بيضاء كالثلج لقد خط الهم تجاعيد عميقة على وجهه الجميل وصاحبته الأفكار الكئيبة وبدا ان كلمة (فاشل) قد كتبت عبر حياته ، لقد انتهى تمثاله العجيب وتبقى من صوره القليل الذي لم يصل أبدا إلى مثله الأعلى حتى ميكل انجلو نفسه قال له ذات مرة بإحتقار إنه فاشل .
كان ليوناردو سعيدا أن غادر إيطاليا تاركا ذكرياتها خلفة على أمل يبدأ من جديد في منزله الهادىء الفرنسي ، ولكن الموت دنا منه وقبل ان تمضي سنوات قليلة أضحى أضعف من أن يمسك بفرشاة أو قلم رصاص ، وفي فصل الربيع حمله فرانسيسكو بيده القويتين ليلقي نظرة أخيرة عبر النافذة على العالم الذي أحبه بإعزاز وصاح بآخر كلماته :
أنظر ..؛ لقد عادت طيور السنونو ، إنها ستعيرني أجنحتها لعلي أطير بها بعيداً وأستريح !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق