الأربعاء، 6 يونيو 2018

فرسان الفن .. الحلقة الثامنة / بياترو بيروجينو ١٤٤٦ ـ ١٥٢٤م .

قراءة في كتاب فرسان الفن حول قصص حياة الرسامين الإيطاليين 
للمؤلفة إيمي ستيدمان
قراءة / راضي جودة




بياترو بيروجينو ١٤٤٦ ـ ١٥٢٤م .
منذ اللحظة التي انطلق فيها بصحبة والده من بيتهما في كاستيللو ديل بييفو بقدميين حافيتين متربتين متجهين إلى بيروجيا المدينة القصية وقد حاول ألا يبدو متعبا خاصة وان والده يحثه بالقول : هل أنت متعب بالفعل يا بياترو ؟ نحن لم نبلغ منتصف الطريق ! ويجب ان تخطو بشجاعة وتكون رجلا ، فمن اليوم سوف تبدأ حياتك العملية ولم تعد طفلا كسولا لا عمل له .
اراد ان يبدو رجلا فقال لوالده : لست انا المتعب إنها ساقاي لا يمكنها ان تخطوا مثل خطواتك الطويلة !! .
وصلوا في النهاية إلى البوابة المنيعة اتروسكان التي بنيت أول مرة منذ مئات السنين ومازات قادرة على صد جيشا من الأعداء إذا ما احتاجت بيروجيا أن تدافع عن نفسها ، واستطاعوا المرور وسط تدافع الناس والوصول لوسط المدينة ومنطقة السوق أمام الكتدرائية بالميدان العام .
هنا توقف الرجل وسأل أحد العابرين عن متجر نيكول الرسام ، فأجابة المواطن واشار إلى متجر متواضع في ركن السوق وسأله : أترى أحضرت الطفل ليكون موديلا للرسام ؟
فرفع بياترو رأسه متفاخرا وأجاب بسرعة : أنا لم أعد طفلا ولقد جئت لأعمل لا لأمكث بلا عمل !!
وكذلك عندما سأله الرسام الطاعن بالسن : ما الذي تستطيع فعله ؟
فأجابه الولد في التو: كل شيء ، أستطيع أن أكنس المتجر وأطهو العشاء ، وسأتعلم كيف أطحن الألوان وأغسل فرش الرسم وأؤدي أعمال رجل ! ضحك الرسام وقال : أثق في هذا وإنك سران ما ستصبح أعظم رجل في بيروجيا ، وتجلب الشهرة لهذه المدينة الجميلة سندعوك بـ بياترو فانوتشي ، ولكنك ستأخذ اسم المدينة وسنسميك بيروجينو .
كان الاستاذ يمزح عندما قال إنه سيصبح رساما عظيما ، ولكن بمضي الوقت ومراقبته له وجده يتقن عمله وينجزه في سرعة ، واوصاه الاستاذ بوصية رائعة .. يجب ان يهتم بها كل الفنانين ، كان الاستاذ يقول : « ليس ثمة شيء أجمل من فن الرسم إنه السلم الذي يقود إلى السماء، والنافذة التي ينسل منها الضوء إلى الروح ، يحتاج الرسام ألا يكون فقيراَ ولا وحيداَ؛ إنه يخلق الوجوه التي يحبها بينما يبقى الضوء والألوان والجمال ملء يديه، فإذا ما أردت أن تصبح رساماَ يا بيروجينو الصغير فإنني لك ثروة أعظم من هذه ».
اختار بياترو جزع شجرة مجوف ليس بداخله دون أن يراه الآخر ، ومن خلال مكانه يتأمل كل ما حوله من جمال وطبيعة ووجوه وعابرين ، ورغم مجهوده في العمل الذي بالكاد يكفيه قوت يومه كان يصغى بشغف لكل زائر للمتجر ليتعلم شيئا في عالم الرسم ، واحيانا ما كان يغامر ويسأل الزائر إذا كان مسافر أو أتى من مكان بعيد ، وحين أتى رسام من فلورنسا سأله بياترو : أين توجد أجمل صورة ؟ وأين يوجد أعظم رسام ؟
فلما وصف له الصور التي تغطي جدران الكنائس في فلورنسا وكذلك الزهور والألوان ، قال في نفسه أنا أيضا سأذهب إلى فلورنسا ولا داعي من الإنتظار حتى يتوفر المال الكافي ، واندفع في النهاية يسلك الطريق الأبيض الطويل الذي بدا له إنه لا نهاية له وواصل سفره يوما إثر يوم ، حيث رأى من بعير مدينة أحلامه تلوح له من تلال التلال والزهور تطوقها الأبراج والقلاع ، مسكين بياترو ها هو العالم الذي تاق أن يظفر به ، ولكنه مزال طفلا ريفيا فقيرا فأنى له أن يتسلق السلم الذهبي للفن ، والذي قاد الكثير من الرجال للشهرة والمجد.
بدأ العمل المجهد وهذا هو المهم حتى ابتسم له الحظ بملاحظة الفنانين الفلورنسيين لعمله الجاد والمتميز .. رغم أخطائه ، وتعرف وشاهد اعمال المشاهير واقترب منهم والتقي بوتشيللي الصغير والشاب الذي يماثله بالعمر والذي كان يدعى ليوناردو دافنشي والذي كان يهمس الجميع بأنه سيصبح ذات يوم أعظم فناني عصره .
وكان أمام بياترو الكثير ليتعلمه وكانت دروس ماساتشو الأكثر روعة من خلال رسوم الفريسكو ، وجاءت ساعة التتويج حين تسلم بيروجينو دعوة من البابا للذهاب إلى روما ليرسم كنيسة سيستين .
اختلفت حياة الرسام الشاب ، فلم يعد يسأل أين وكيف سيتناول وجبة طعامه الآتية ، أصبح ضيف ملكي ويتشرف الرجال بصحبته ورغم حبه لفلورنسا إلا أن قلبه كان معلقا بالمدينة التي تتوسط التلال والتي يحمل اسمها ، سافر اليها واجتاز البوابة القديمة وهو يتذكر تلك الأيام ، حقا أنه عالم التغيرات .
اصبح له مرسم كبير وتلاميذ ، وذات صباح حضر رجل ومعه طفل صغير له وجه بيضاوي وفي الثانية من عمره وتوسل اولياؤه للرسام العظيم أن يعلمه ويدربه ، كان ابوه رساما وتعلم كيف يستخدم الرصاص والفرشاة ، كان الطفل رفائيل ماهرا وذكيا ومحبوبا وقال بياترو كلمته : إنه تلميذي الآن ويوما ما سيصبح استاذي وسأتعلم منه .
كان بيروجينو جادا ومخلصا في عمله الذي نما وازدهر وتجاوز كثير من الفنانين الجدد ، ولكنه كان غيور من تلك الشخصية الجديدة التي اصبح لها قوانين فنية جديد ، ولقد تحدث بإسهاب عن بغضه للطراز الجديد وذات مرة دار بينه وبين الفنان الكبير مايكا انجلو شجار خطير .

اكتفى بالعمل على طريقته واسلوبه وغادر فلورنسا عائدا إلى بيروجيا لبيته وزوجته الجميلة تشاير التي جلبت له السرور وقام برسمها في العديد من الصور ، وكان يرسم في سنواته الأخيرة بنفس الجد ولكن الأيام الآمنة لم تستمر فقد عصف بالريف داء الطاعون الذي داهمه ومات ودفن باسرع مايمكن في حقل مفتوح تحت شجرة سنديان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق