السبت، 2 يونيو 2018

فرسان الفن .. الحلقة الرابعة / فرا فيليبو ليبي ١٤٠٦ ـ ١٤٦٩م

قراءة في كتاب فرسان الفن حول قصص حياة الرسامين الإيطاليين 
للمؤلفة إيمي ستيدمان
قراءة / راضي جودة








فرا فيليبو ليبي ١٤٠٦ ـ ١٤٦٩م
في أحد الشوارع الضيقة وفي مدخل بيت كبير كان يجثو ولد صغير خلف حجر من أحجار الأعمدة ممسكا به لينجو من قبضة الريح العاتية وملتف بمعطف مهترىء وممزق يكاد يغطي جسده النحيل فيما كانت شفتاه ترتعد بردا وامتلأت عيناه بالدموع . 
مع ذلك لم يقابل فيليبو العالم بوجه حزين بل باستهزاء ومرح ، كان لدى الأطفال الآخرون أباؤهم وأمهاتهم الذين وفروا لهم الطعام والملابس ، ولكنه بدا مختلفا تماما فلم يكن لديه أبدا من يهتم به كسائر الأولاد، حتى عمته التي تولت توفير المأكل المشرب له رغم وجود والدية كانت تعاني الفاقة والبؤس ، وقد تعلم في فصل الصيف ان يلتقط بقايا عناقيد العنب أو قشر الشمام الذي يلقي به البعض وهم ينظرون له وهو يترقبهم وكان البعض منهم يبتسم ولكن الشتاء لا يرحم الجائع وقشر الترمس الذي جمعه لإفطاره قد تناوله كله منذ وقت طويل .
كان يمضي يومه باحثا عن مأو ى من برد وشبع يخمد ألدم الجوع ، حتى انه يجمع بقايا الشموع السائلة بمجراف حديد ليعاود بيعها ثانية لصناع الشموع ولكنه لم يجد شيئا ، وكل ما كان يلقاه من القوم العبوس في وجهه كمن يرى كلب ضال وأجرب ، حتى وجه عمته التي لن تملك طعام إن لم تنه عملها، وها هو الولد قد عاد وقد ظنت انها تخلصت منه هذا اليوم ولما رأت البؤس والجوع والبرد يملأ كيانه .. دفعته أماما بعد أن اتخذت قرار الذهاب إلى الدير .
عندما سمح لهما الراهب الطيب بالدخول وأوصلهما إلى رئيس الدير الذي كان يتناول غداءه فثبتت عينا فيليبو الجائعتان بتجاه قطعة خبز على المنضدة ، وعندما ابتسم له رئيس الدير وأومىء له برأسه حتى أنقض كالطائر على قطعة الخبز واختطفها، وبعد ذلك أصبح الطفل ذي الثمان سنوات يلبس حلة من الصوف بنية دافئة وطعام لم يحلم به من قبل وليأكل قدر استطاعته!
وعندما اراد رهبان الدير تعليمه أشياء أخرى غير الأكل لم ينجحوا تماما فهو لم يستوعب الحروف اللاتينية ولم يراها إلا أشكالا يعبث بها ويرسمها باشكال وحشية وعهدوا به إلى الراهب أنسيلمو ليتعلم مع تلاميذه الرسم واندهش فيليبو للزيل الذي يكبره يدعى ديامنتي وخبرته في رسم الخطوط المستقيمة والمنحنيات .
واصبحت اصابع فيليبو طوع افكاره ولديها القدرة على الرسم بجمال أكثر من أي شخص آخر لدرجة أن استاذه الراهب أنسيلمو يقول بأنه هذا الطفل الغبي الذي لم يتعلم الحروف الهجائية سيجتازنا ويتركنا خلفه .
حين ناداه رئيس الدير ليقوم بالرسم فوق الجص الأبيض الناعم وأنا يرى المنتج من هذا التعليم الذي استغرق وقتا وصبرا حتى أدركه ، راح يرسم فيليبو الناس في الشارع وزوار الكنيسة وزاع صيت ما يدور ويتحدث الناس عن الشخصيات المرسومه وصارت جلبة داخل الدير مما استدعى تدخل رئيس الدير ليوقف هذا العبث ويعنفه بأنه ما هكذا يتعظ الناس ولابد من رسم القديسين والسماء ، ولكن فيليبو أراد رسم الأرض التي يعرفها ولما امسك بأدواته ليرسم من ديد صور الملائكة لم تكن صعبة عليه وإنما لايريد هو ذلك يريد أن يرى الناس ووجوه غير وجوه الرهبان والدير وأر اد الخروج من هذا المكان ، وفي أحد الليالي أستطاع الخروج من الدير وانطلق مع الشوارع والأرض الفسيحة حتى وصل إلى البحر الهادر بأمواجه وقد اعتلى سفينة ولم يشعر ركاب السفينة أنهم ابتعدوا كثيرا إلا حينما داهمتهم سفينة الموروكن أو المغاربة كما كان يطلق عليهم ذلك ممن يأخذون الناس أسرى ويبيعونهم عبيدا (قراصنة) .. في اللحظة التي ظن أنه حرا طليقا ويبلغ عنان البحر والسماء كان صوت الأصفاد وحده هو الذي يشعر معه أنه ما كان عليه أن يغادر الدير .
واخيرا وصلت السفينة إلى ساحل بارباري وحرر العبيد من قيودهم ومجاديفهم وأخذوا إلى البحر ، كل هذا وعيون فيليبو لا تمل مشاهدة الناس ودراسة وجوههم ، وفي أحد الأيام أقترب من حائط أملس وتناول عصا مفحمة وراح يرسم وجه سيده ، كان مسرورا والصورة تكبر بين أصابعه .
لقد استغرق واندمج مع الرسم للدرجة التي لم يشعر معها بالزحام الذي تجمع حوله ، لكنه عمل بثبات حتى اكتملت الصورة ، ومثلما تجمع الرهبان في دير كارمن صامتين ظل اصحاب الوجوه السمر يحدقون متعجبين مندهشين ، وعندما هرع أحدهم ليحضر الربان .. أتى السيد وكان مندهشا كبقية الرجال وبالكاد يصدق عينيه حين رأى نسخة طبق الأصل من صورته على الحائط . 
أمر السيد أن تحل قيود فيليبو في الحال وأن يعامل باحترام وأن يحمل آمنا للعودة إلى إيطاليا ، وضعوه على شاطىء نابلس ومكث قليلا يرسم الصور للملك ولكن قلبه كان متعلقا بفلورنسا التي سرعان ما عاد إليها ، وإن كان لا يستحق الترحيب ولكن 
الجميع فرح بعودته ورغم المتاعب التي صادفها كان يحب الحياة ومسراتها واراد الحصول على إجازة من الرسم بعد أن ترك أدواته مبعثرة حوله وتكاسل عن العمل ، كان كوسيمو صديقا دائما للرسامين ورغب في ان يرسم له فيليبو صوره دونما أي تأجيل ، وقد أعد حجرة عالية في قصره للرسام ويسر له كل ما يحتاجه وكان سعيد في البداية وبدأ يرسم ، ولكن عندما شعر بأنه مسجون داخل الغرفة التي يغلق بابها من الخارج لم يتحمل البقاء بعد ان نظر من خلال النافذة المرتفعة عن الأرض ورأى بعض الناس يمرحون في سعادة ففكر في الهروب من المكان عن طريق تمزيق الأغطية والشراشف وربطها في قضبان النافذة وتدلى خارج المكان ، بعد اختفاؤه عدة أيام اعاده كوسيمو دون ان يغلق عنه الأبواب فراح يرسم من صميم قلبه في حرية وانسجام مريم الجميلة والملاك ، وجاءت طلبات لرسم الصور من كل حدب وصوب إلى فيليبو ليبي لمختلف الكنائس والأديرة وكانت الصور تحمل ملامح بعض أصدقائه دون أن يلحظ ذلك أحد .
كان اقرب أصدقاء الفنان الشاب رفيقه القديم فرا ديامنتي وظلا يعملان معا وجاءهم الأمر من براتو أن يذهبا معا ويرسما جدران سان ستيفانو ، وصل الرسامان مع تلميذهما المفضل بوتشيللي وغطيا الجدران برسوم الجص ، وبينما يضع فيليبو اللمسات الأخيرة لصورة لفارا ديامنتي صور فيها موت سان ستيفانو كان يقول له : أنهما في حاجة لإجازة معا بعد أن أمضيا وقتا طويلا بالعمل وفيما يواصل حديثه جاءته رسالة من رئيس الدير في سان مارجريتا راجيا اياه العودة لكي يرسم هيكل كنيسة الراهبات ، فابتسم فيليبو لديامنتي وهو يردد الذي يجب ان يكون .. يجب أن يكون ! سابذل ما في وسعي لأسعد هؤلاء النسوة الجليلات ولكن لا مزيد بعد ذلك .
استقبلته رئيسة الدير الوقورة عند باب الدير وقادته عبر الحديقة المشمسة ويدخلان للكنيسة المظلمة وفي صوت عذب خفيض اخبرته بما يريدونه أن يرسم العذراء المقدسة والطفل المبارك ، وأرته المكان أعلى المذبح .
بدا الرسام مصغيا ولكن ذهنه كان شاردا! لقد مَنّى نفسه طيلة الوقت أن يعود إلى الحديقة المشمسة حيث رأى وجها صغيرا جميلا وينظر عبر زهر اللوز ، وحين توقف الصوت الهادىء لرئيسة الدير قال فيليبو :
سوف أبدأ غدا في الرسم ، وفعلا مع بداية اليوم التالي بدأت اللوحة تتمدد وتكبر من بين أصابعه ولكن تلك الأصابع الخمس لم تساعده لإستكمال الصورة التي يحدق بها ، وسأله الصوت الهادىء الذي لم يشعر بلحظة دخوله : أثمة خطأ ما ؟!
ـ يبدو أن الخطأ في أصابعي .. لقد وجدت وجها وأنا أعبر حديقة الدير .. هذا هو الوجه الذي أريده بالتحديد ، وإذا حضرت أمامي ورأيتها لساعات ستكتمل الصورة كرغبة الأخوات .
وبعد ان استغرقت رئيسة الدير لحظات في التفكير لتحقق له رغبته :
ـ إنها الطفلة لوكريزيا التي أرسلها أبوها دوق بيوتي في فلورنسا ، إنها لا تزال راهبة تحت التجربة ، ولا ضرر إذا سمحوا لها أن تعيره وجهها الجميل كنموذج لسيدتنا .
جائت لوكريزيا لتجلس أمام هذا الشاب الوسيم ويراها ويتحدث معها وحدهما وتطور الأمر بينهما، واخبرها فيليبو أنه أحبها ، وقالت إنها لا تتصور حياتها بعد رحيله ، واتفقا على إشارة فيما بينهما للهروب سويا والحياة معا في فلورنسا ، تميز أبو لوكريزا غيظا وفزعت الراهبات وتعجب الجميع من هذه المغامرة للرسام الفلورنسي 
ولحسن حظ فيليبو أن صديقه كوسيمو وقف إلى جانبه بعد ان توسل للبابا ليسمح لفرا فيليبو بالزواج من لوكريزيا وقد تعطف البابا وأجابه لطلبه، وعندما أتى الربيع جاء الطفل الذي أراد الأب أن يسميه فيليبو فقالت الأمن أنه صغير وليكن اسمه فيليبينو وصارت صوره ورسوماته اكثر إشراقا بعد استقرار حياته وقد اقبلت طفلته التي اسماها اليساندرا تيمنا بحضور تلميذه المحبوب ساندرو بوتيشيللي الذي تنبأ له انه سوف يوقظ العالم على أعجوبة جديدة ، وصارت الحياة مع فيليبو تسير بين عمله في الرسم وبين بيته وحبه للوكريزيا حتى كان اليوم الذي يجب أن يغادر إلى سبوليتو ليعمل في كنيسة سيدتنا لمدة ثلاثة أشهر مصطحبا صديقه المخلص ديامنتي ، ومضت الأيام والزوجة الشابة العاشقة تنتظر وصول حبيبها حتى لاح لها من بعيد ديامنتي عائدا وحيدا ليحمل لها الخبر بنفسه ، فقالت له : لا داعي أن تخبرني لقد مات ولكن كيف كان ذلك ؟ .

ساعات من الألم وبعدها فارق الحياة لقد كان هناك حديثا عن سم ولكن من يستطيع أن يجزم ؟ وماتت الفرحة في حياة لوكريزيا . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق