مدينة الموت الجميل
لوحات ملونة بصياغة سردية
راضي جودة
« من يجعل ، وهو يرحل ، أو يموت ، أهله يذكرونه ويستمرون على الإحساس بأنه يعيش معهم ، لا يكون قد رحل نهائيا ، لا يكون مات تماما »
استورياس *
ذلك كان مدخل المجموعة القصصية التي ضمها كتاب ـ مدينة الموت الجميل ـ للأديب سعيد الكفراوي *
صورة من صور الحياة والموت والماضي والحاضر في المجموعة التي مضى على نشرها اكثر من ثلاثة عقود ومازالت تتمتع بطزاجة ودقة الوصف في لوحات حياتية يومية ملونة ، وأخرى متخيلة اسطورية غائصة في الرمز ، للدرجة التي تصورت للحظات انني لا اعيش مع الأديب القاص سعيد الكفراوي بل الفنان التشكيلي الكفراوي في معرض مكتظ باللوحات والمجسمات والألوان البديعة التي حملتها الحروف من سرد وصفي عجيب .
في قصة (لابورصا نوفا) ومن الأحرف الأولى وانت تسير في طرقات تعج بالصور والأشخاص يرسمها باحترافية منذ اللحظة التي اصطحب فيها والد الطفل .. الشاب .. الرجل ، الذي عمده ابوه ثلاث في بحر النيل ليذهب به إلى المولد ويرسم على صدره وذراعه وشما للسيف وللأسد ويوثق اسمه ومكان ولادته وسكنه باللون الأخضر ، أنت تعيش مع كل كلمة وكل حرف في صورة من الصور ووصف لمشهد .. الطريق .. السينما .. البنت التي ربما احبها قبل ان يأتي للحياة ثم يقلب صفحات كتب التاريخ ينزع صورها ليفردها أمامك شارحا لك أدق التفاصيل التي اعتنى الرسام والمصور ان تكون خافية داخل المشهد حتى يأتي اليوم الذي تفضح خفاياها عين مبصرة ذات دربة عالية في كشف ماوراء الستائر المسدلة على فعل فاحش فاضح أو عين زاغت عن استكمال رسم الأعين المعصوبة ، الأعين التي تتنكر للأسماء وللأشخاص وللصور .
أما خلال (الجمعة اليتيمة) فإن الصهيل أيقظه ليشهد ما يدور هناك خلال الأقبية الأيوبية والأصوات .. واندفاع الريح يعبث بالمكان ويخطط ملامح التاريخ .. تماما كما أيقظتني كلمات السرد كي ارسم صورا ولوحات خارج تلك الكتابة لأشاهده وهو يحاول ان يمد قدميه خلال النافذة الحديدية ويمد إرادته خارج فتحة الباب حيث المصباح الأعور ، وهو يتذكر ذلك الحامل الحديدي النافذ في الجدار الخلفي ويبدو له كمشنقة .. فيما تخمش اسفل قدميه مخالب قط مذعور وجائع يرى جسدا يتدلى من الحبل قد يصبح وليمة جيدة ، والمصباح الأعور يتنفس ظلالا شاحبة ميتة ، وصوتا داخله يسأل : لماذا هي جمعة يتيمة ياجدتي ؟ ولماذا لم تعثري على قبر جدي ، ولماذا الرجال الذين يذهبون لا يعودون ؟.
هو الــــ (قمر معلق فوق الماء) عندما انتهى عبد المولى طفل التسع سنوات من ري النخيل بعدما اتسخت قدماه بالطين والتراب وابتلت معها ثيابه ، راح يهرول ملبيا نداء امه التي اخبرته أن عمه جاء ليأخذه معه إلى بيته ، ولم تنس ان توصيه بالطاعة لهذا العم الذي يمنحهم ظله وبعض القروش ، في عجالة جمع اغراضه في صرة القماش وكان عليه ان يبتعد حتى لا يصله بكاء امه التي تودعه وعند حافة الماء اجتاز إلى الحافة الأخرى .. لم يكن الانتقال والعبور من حافة لحافة لنفس النهر وانما عبور من القرية الوادعة إلى المدينة الهادرة بصخب الناس ولعب الأولاد بطائرات الورق في يوم الإجازة ، المدينة التي كان يتعرف عليها من خلال نبيلة وهو يسير إلى جوارها وكفه بكفها ، ومشاعره الجياشة تدق بقلبه الصغير، تعلم على يديها الحب والغيرة وعندما شاهد ظل الانسحاب للحبيب الأول ، القم نوافذها حجر تلو الحجر وتناثر الزجاج على اجتماع الناس وقرار عمه أن يعود من حيث أتى ويودع الشارع ، ونافورة المياة ، ومسجد المتولي ، وكنيسة (الآباء القديسين) وشعر بان هذا محزن جدا فشرع بالبكاء ، في الليل وهو يعبر النهر للحافة الأخرى وجد نفسه معلقا فوق الماء ، كان هو القمر .
عبد المولى لم ينسحب تماما من قصص الكفراوي بعدما حصل ما حصل من تحطيم زجاج واجهة باب شقة نبيلة بل يتواصل مع رسم الطريق إلى ـ الكُتَاب ـ الذي تأخر عن الذهاب إليه وهو الذي اعتاد يصاحب انيسة في نفس الطريق لانها لا تتعرف على الأشياء إلا بقلبها وإحساسها ، وكانت تسأله إن كان اتم حفظ (الأعراف) كان ينفلت من السؤال بكلام عن الشمس الساطعة والوان الأشياء من حوله ، ولكنها ترده لنفس السؤال اتل يا عبد المولى سورة الأعراف .. لم تحفظ ، لقد تأخر عن الكتاب وعن انيسة التي اصطحبها الواد احمد ، مجموعة الاحباطات والارتباكات يصفها القاص باقتدار ، يرسم لوحة لعبد المولى وحيدا في الليل وانيسة تتحسس خطوات متعثرة تتلمس حائط الزقاق المسدود بالعفاريت ، تنتظم الضربات الآتية من اليد الغليظة لسيدنا فوق المقيد بالفلكة لانه لم يحفظ سورة (الأعراف) .. ، وهو يئن ولا يقوى على الصراخ وتلاميذ الكتاب ينهنهون وتتساقط دموعهم فوق صفحات المصاحف الصفراء .
في قصة (صندوق الدنيا) الطفل علي الذي ينتظر وصول عم أيوب وصندوقه الخشبي الساحر حاوي الحكايات الذي سوف يأتي بالصبايا والأميرات وسيدنا الخضر والرجل الخفي ، (علي) الذي ينتظر العم أيوب عند الجسر الصغير الذي تمر من تحته المياة ينتظر أن يرى الراية التي تعلو الصندوق الذي يحمله الرجل ، ينتظر حتى عتمة الليل ، لا تفارق مخيلته صور الصندوق وحكاياته التي تتجسد امامه وهو ينتظر حتى يأتيه صوته من بعيد صوت أيوب أو الرجل المجهول عد لبيتكم يا علي الليل اوشك على الهبوط .
(الجواد للصبي .. الجواد للموت) صورتين هامتين في حياة كل المخلوقات ، لحظة الميلاد ولحظة الوفاة ، والولد الصبي الصغير الذي لاحظ انين الشهباء وهي في المخاض وقد برز ظلفان اخذ يصرخ طلبا للمساعدة ، وامسك بالظلفان واستمر في المساعدة حتى ظهر المهر المولود الذي اصبح ملكا له وسماه عنتر ويختلط الولد مع المهر الوليد ويرضع كل منهما من لبن المهرة الشهباء ، ويغدو المهر بعد زمن مركز الحياة في القرية يمتطيه الولد بعد ان ينام الناس وتدق حوافره الأرض ويشارك به افراح والعاب الصبية مما جعل اهل الحسد يحقدون عليه منهم الشيخ راغب الصفطاوي فاتح المندل وقارىء الكف الذي راح يصيح بين الناس : أقطع ذراعي ان لم يكن المهر والولد من نسل الشياطين ، والعجوز التي تكنس العتب وتتلو الطلاسم وتدفن الأعمال في فتحات المقابر تدعو ان يدهس الولد حوافر فرسه ، وان يدفن الفرس من بعد جيفة .
عنوان الكتاب قصة (مدينة الموت الجميل) من أجل لوحة دخل إلى الملحق الذي يختبىء خلف بابه زمن محبوس بكل تفاصيله القديمة ولكن اللوحة ـ البنت .. والسفينة .. والنورس ـ مد يده وانزل اللوحة ، وبعدما خرج للحديقة التقى بالسيدة المتشحة بالسواد والتي كانت تتأكد من أنه نفس العنوان ( مدينة الموت الجميل .. شارع البحر .. فيلا النورس ) نفس العنوان ونفس السحب والوجه الشاحب ، اغلق البوابة وعاد لمكتبه حدق في اللوحة سمة بعض الكلمات اسفل اللوحة للمعنى الوحيد المستحيل .. مدينة الموت الجميل .. ارتج جرى ناحية النافذة يبحث عن المرأة ، لكنه لم يجد سوى البحر .
(خط الاستواء) بينما كانت الجرافات الثلجية ترفع الجثث الممتدة على طول الطريق وتثير الفزع ، كان هو يركز النظر بإتجاه الزجاج الملون بالساحة المقابلة وظل الجدار المائل ليظهر المكتب المضاء نهارا ، وقبة المسجد القديم ، ورجل بدون ملابسه الرسمية وصلعته تلمع تحت الشمس ، هناك رجال يجلسون بنفس المكان يجمعون ذكرياتهم ويوزعونها بينهم .
ثنائية أخرى مع قصة (الصبي فوق الجسر) حيث يتجسد الماضي والحاضر في شكل طائر ، وهو يقف عند رأس الجسر حيث سبيل الماء المملوكي بالوانه التي مازالت زاهية وحوله كتابات متهالكة وغير مفهومة ، مياهه باردة تروي عطش أهل الطريق .. بجوار كشك عسكري الدورية والذي لا يأتي إلا مع الليل ، صف كافور وصف توت وظلال ، هو وحده فوق الجسر تتعلق عيناه بفضاء الله الواسع ، وتدور رأسه في الظهر الأحمر ، كانت عيناه في أعالي الشجر وفوق أبراج الحمام وأحواض الزراعة .. كان الطائر يحلق في السماء مبتعدا وكان يحدق فيما يرى ولا يفهم شيئا .
(حضر الموت) تلعب الطقوس هنا دورا حيويا للمشهد بين الموت من الحياة والموت من انتظار حبيب غائب ، ورغم الإشارة في بداية القصة .. « لا تفتح الباب للريح .. دعها لا تأتي » لكن الريح آتية بعد ان قالت البنت لأمها : خذيني إلى النهر ، قرأ عم عمران صفحات الكتاب ( حضر موت ) الوطن .. عدن الجنة .. عيناها مفتوحة ترى ولا ترى ، وعند التخوم البعيدة .. يجثم القصر السيدة والعبد والسلطان .. الست ـ زينب الطاهرة ـ تطرق الباب بلا إذن .. وجهها أبيض .. ثوبها أبيض على كفها دستة شموع ملونة تضوي الوانها مع الظلمة الزاحفة ، الأم ترقب العينين اللتين يزحف على سوادهما البياض .. صرخت الأم بينما يد البنت قد استراحت بجانبها ، في اللحظة ذاتها علا صوت العم عمران من فوق مئذنة الجامع يدعوا الخلائق للصلاة .
(العشاء الأخير) لم يحضر هنا دافنشي بل يحضر الماضي في حاضر يعيشه الولد الذي أصبح شابا ، ورغم أنه يعيش في الحاضر إلا أن الماضي لا يفارقه ، كل هذا الزمان قد انقضى وكأنه كبر الف عام ، يرى أذرعا من زمن مضى ووجوها امتلأت بالأسى والحنين .. خاف وحده وكأنما العتمة أبدية تسيطر ولا يهددها ضوء النار ، وهو يخطوا نازلا منحدرات غير مواتية للحلم .. هل يعود ما مضى .. يسير رفقاء الطريق حيث رائحة زهرات البرتقال ، في ظل الشجر والحيوان تفتح المناديل المربعة على خبزات ناشفة تنكسر مع أصوات الرجال ، (سلامة) !! ـ أنا سعيد يا عم ، سعيد ابن سلامة .. أخيرا عدت .
وهكذا مررنا بمعرض تشكيلي متكامل الصور والشخوص والرموز .. متعدد الزوايا وما بين سطوع الشمس المبهر إلى الليل واسراره ، وكذلك الطفل الذي يكبر والقرية والجسر والأشجار والطائر وانيسة والشيخ وجمهور الرجال وصور صندوق الدنيا ، والفرس الشهباء ووليدها عنتر الذي شغل الناس واشغلهم ، لقد أجاد القاص في تكوين صور ولوحات غاية في الجمال لعلها تكون مشروع عمل فني تشكيلي لأحد الزملاء ، ودعوة أن نحاول اكتشاف القصص والروايات من منظور الحوار البصري .
…………………………………………………………………………………………………………………….
* ( ميغل أنخل استورياس اديب وشاعر وصحفي ودبلوماسي غواتيمالي ، حاصل على جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٦٧م ).
* سعيد الكفراوي قاص مصري ينتمي لجيل الستينات تقتصر اعماله الأدبية على القصص القصيرة من مواليد ١٩٣٩م بقرية كفر حجازي بمحافظة الغربية ، من اعماله ( مدينة الموت الجميل ١٩٨٥م ، ستر العورة ١٩٨٩م ، سدرة المنتهى ١٩٩٠م ، مجرى العيون ١٩٩٤م ، دوائر من حنين ١٩٩٧م ، كشك الموسيقى ، يا قلب من يشتريك ، البغدادية .. ثم زبيدة والوحش ٢٠١٥م ـ مختارات قصصية صدرت عن الدار المصرية اللبنانية ، وتضم ستة من مجموعاته القصصية ـ ) .
* غلاف الكتاب والرسومات الداخلية للفنان سعد عبد الوهاب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق