تم نشر المقال بالمجلة العربية بالعدد ٤٩٥
ليس للرحيل مواسم وجع
راضي جودة
الرحيل هو عنوان كبير للفقد حينما تتأجج المشاعر والذكريات وتحاول ان تمسك بلحظة تنفلت من العمر والمكان والإنسان ، لحظات وداع ، قد تتلون بالسفر أو الموت ، مشاعر يعيشها الإنسان وقد تتعاظم داخل نفسه في حالة من الهم والغم لا تختار لها وقتا .. وليست له مواسم .
والمهندسة سارة زهير .. فنانة مصرية شابة تشبثت بالكاميرا لتسطر بلقطاتها لحظات حياتية ، ومحطات مهمة تصادفها بشكل يومي وهي في طريقها للدراسة والعمل وقليلا من التنزه .
سارة زهير اقامت معرضها الفوتوغرافي الأول بتياتروا اسكندرية في سبتمبر الماضي .. لم تترك لنا مجالا للسؤال عن اختيار « الرحيل » عنوان أول معرض في بداية المسيرة الفنية حيث قدمت لنا قصاصة تشرح فكرتها عن الرحيل .
الرحيل
مراسل الرحيل .. أوقات ثقيلة تمر .. لحظات أو أعوام كاملة ترتبط بفراق شخص ما أو تودع مكان ما .. تفاصيل تحمل في طياتها نوع من انواع القداسة لحظة الرحيل وكثير من الخوف والاشياق معا ، ورغبة كبيرة في الاحتفاظ بالقدر الأكبر من التفاصيل الصغيرة في الذاكرة .. ذاكرة قوية في البداية ثم تضعف مع مرور الوقت .
المكان .. الطابية .. معمار مميز يختفي من مدينتنا في زمن عشوائي مادي لا يهتم كثيرا بالقيم التاريخية للأماكن وجمالها ، هدم المكان كله بعد تهجير سكانه .. لم يبق من المكان الآن إلا سور عالي جديد يحجب البحر ، وبعض الصور والحكايات التي يرويها أهل الطابية ، رأيتهم وهم يبكون الطابية كأنها شخص عزيز يموت أمام أعينهم .
الموت .. وكأن الصمت المطبق وراءه أصوات تحكي قصص تقرأها على شواهد القبور .. قصص تحكي عن سكانيهافي كل مكان اسماء لأشخاص رحلوا .. حروف من ذهب وورد وإهداءات وصناديق نذور ، ورسائل كثيرة للموتى هنا وهناك كأنهم أحياء يسافرون سفر طويل ولكنهم سيعودون يوما ما .
السفر .. طريق موحش .. مجبرا ان تسيره وحدك وان تفارق المكان الذي طالما اعتدته .. قد يكون السفر طويل أو قصير ، مؤقت أو دائم ولكنه يحرك بداخلك احساس بالشجن ، يظهر بوضوح في عيون المسافرين عبر النوافذ ، وفي محطات الإنتظار وصالات المودعين .
الوداع .. هل ودعت نفسك من قبل ، عندما لا تكون انت انت ، موجود ولكن روحك غائبة ، انت لا تعلم متى رحلت ومتى ستعود ، وقد لا يشعر بك أحد قط .. كأنك طيف .. يتساوى غيابك وحضورك .. لا يشعر بك أحد
سارة زهير
سبتمبر ٢٠١٧ م
زرت معرض رحيل الفوتوغرافي وادهشتني الموضوعات وغرابة المكان وطريقة العرض والتقيت سارة ورغم ازدحام المكان باصدقائها ومتابعي لقطاتها دار بيننا هذا الحوار الذي تقول فيه :
بداية محبتي للتصوير نابعة من والدتي عندما كنت صغيرة كنت اراها تحمل الكاميرا ، ومسؤولة العيلة للتصوير ... وكنت اذهب معاها نشتري الأفلام ونحمضها ونستلم الأفلام والصور... الكاميرا الخاصة بوالدتي لها وضع خاص غير مسموح بالاقتراب منها أو العبث بها أو لمسها ، فساعدتني بشراء كاميرا صغيرة خاصتي كنت اصور بها الأصدقاء في المدرسة ، ثم تطور الأمر واصبحت أملك كاميرا ديجيتال ... من أجل الرحلات... الحقيقة أنني لم أفكر في حياتي أن أصبح مصورة احترافية بمعنى اني اشترك في معارض ومسابقات .
بدأت التصوير الاحترافي في عام ٢٠١١م … درست وتدربت وصورت وكان رابع معرض اشترك فيه كان في ألمانيا وده اللي شجعني اني استمر لحد النهاردة... ممارسة هواية التصوير بشكل احترافي .
وتكمل : التصوير الفوتوغرافي مرتبط بالزمن... الصورة هي إيقاف اللحظة لنحتفظ بها للأبد... يعني مثلا الصور القديمة للاسكندرية تظهر لنا شكل الشوارع والميادين والمباني والناس.... وهذا شئ مهم جدا... والصورة بتختصر كتابات كتيرة ممكن تتكلم عن ذلك الزمن .
وسألتها إن كانت تخشى المنافسة ؟
أجابت : انا عموما أخشى المنافسة... وسقف طموحي هو عمل معارض فردية على مستوى العالم... والعمل على مشروع توثيقي بالصور أو الفيديو أن امكن.
قصة مع المعرض بدأت من الطابية... انا اقيم في بحري شمال غرب الشاطيء السكندري في نفس المنطقة الموازية … كنت اسمع عن منطقة الطابية منذ زمن من صديقتي التي كانت احد سكان المنطقة … كان أتوبيس المدرسة ينزلها في مكان قريب من القلعة... واصبح عندي لبس ان الطابية هي القلعة وأغبطها على حظها وكيف تعيش داخل قلعة محصنة مثل التي نراها هنا .
كانت الطابية اكتشاف بالنسبة ومكان يسعدني زيارته مصطحبة للكاميرا حتى ولو لم التقط صورة واحدة ، لكن الزيارة نفسها والمكان يسعدني وأنا أجلس أمام البحر … كنت اتحرك في المكان واسمع من سكانها أنهم مهددون بالرحيل من المكان … وقد يغادروا بيوتهم في أي لحظة... لأجل إزالة الطابية.... وعند زياراتي المتتالية أجد أن عدد الناس أقل من السابق لكن المباني والبحر موجودين... بقيت على تلك الحالة فترة من الزمن وليس عندي صور مهمة للطابية حتى قررت في أحد أيام شهرأبريل عام ٢٠١٦ القيام بعدد من الصور لتوثيق الطابية... ... أول دخول لي بصحبة الكاميرا تجمع هذا العدد القليل من الناس حولي ... على اساس اني صحفية واساعدهم... انهم كانوا ١١٤ أسرة اقنعوا ١٠٠ أسرة بالرحيل ولم يبق غير ١٤ أسرة هم من يقاوم فكرة النزوح .. واستمروا بصحبتي يسردون الحكايات عن المكان ، وأن الفنان فريد شوقي جاء إلى هنا لتصوير فيلم ـ رصيف نمرة ٥ ـ وانهم كلهم معروفين بعضهم للبعض وأحيانا يقيموا سهرات جماعية ليستمعوا للست أم كلثوم ... انا الحقيقة تكونت لدى ذكريات كتيرة ومؤثرة عن المكان وحاولت اصور صور عامة للمكان بقدر المستطاع… و٩٠٪ من صور المعرض تم تصويرها في ذات اليوم ... وكنت أبكي مع كل صورة أقوم بتصويرها من شدة إحساسي بأني لن أرى هذا المكان من جديد .
وظللت التقط الصور هنا وهناك حتى نالني التعب كما أن الشمس قد غربت وليس بالمكان إضاءة كافية ... وتقدم مني شاب اتعرفت عليه قال لي "لا يوجد لدينا كهرباء ولا ماء منذ اكتر من ٣ ايام ... تعالي غدا لأننا خلاص سوف نغادر … وعندما تأتين في الغد سوف أصعد معك لمكان مرتفع تشاهدي منه المكان في مجمله .
الحقيقة اني كنت مرهقة جدا نفسيا وجسديا ولم استطيع الذهاب إلي المكان في اليوم التالي وسافرت يوم الجمعة... في يوم الأحد وجدت على الفيسبوك خبر..." الحقونا الطابية بتتهد دلوقتي" وشاهدتمن خلال الصور البلدوزر والمعدات تعمل للهدم ... أنا رجعت من السفر يوم الاتنين من المحطة إلى الطابية مباشرة… وهذا كان أبشع مشهد وقد تحول المكان لأكوام من الحجارة كاننا في حرب... انا كنت واقفه قدامها مش قادرة اتحرك وكل اللي كنت بفكر فيه الندم على كل الصورالتي لم اسعى لتصويرها … وتذكرت كل الكلام والناس وذكرياتهم اللي ضاعت وسط الركام
بعد عدة أشهر حاولت اقامة معرض في من مكان عن الطابية... ورحيل المكان... الناس رفضت
يأست قليلا… وبعدها وجدت الفكرة تتكون من نفسها… توجهت إلى المقابر وصورت... سافرت القاهرة وصورت... فمن هنا ظهرت فكرة الرحيل حتى صور رحيل الذات .
وحاليا الطابية ليس لها وجود وتم بناء سورعالي جدا لدرجة انك لا تستطيع رؤية البحر
واحتفظت بصوري الأخيرة للطابية بعد الهدم لم اعرضها في المعرض لأنها صور مؤلمة للغاية.
تركتها تلتقط الانفاس ، وسألتها عن دراستها للهندسة فقالت :
الهندسة بالنسبة لي هو مجال دراسة وعمل اما التصوير الفوتوغرافي هو هواية... التصوير كما الرسم... وسيلة تعبير كما الكتابة والشعر... وانا كنت أحب جدا الرسم و التصوير وانا صغيرة... كل الناس بتشوف التصوير الفوتوغرافي فن... انا بشوف انه فن وذكاء.... ذكاء انك تخللي المتفرج يشوف حكاية في كادر ثابت... ودي اكتر حاجة بحاول احققها في التصوير، رحيل الإنسان مرتبط بالاقدار... ولا يوجد انسان خالد…لكن خلود البشر من سيرتهم والحكايات عنهم ... الأماكن دائما ما تحمل بين جوانبها حكايات... فقد تمر من مكان مر به شخص من مئات أو آلاف السنين.... آثار الناس في كل مكان عبر الأزمنة تنتقل معهم حكايتهم مع مرور الوقت
اما برحيل المكان .. تختفي آثار من عاشوا فيه ويتناسي الناس قصصهم... فالمكان هو شاهد على حيوات لم نعيشها .
وأما عن هموم الحالة الفنية والمشهد الثقافي عامة تقول سارة :
الجمعيات والمؤسسات والمراكز الثقافية لها دور كبير في نشر الفنون المختلفة وإتاحة الفرصة للفنانين بعرض أعمالهم.... ومن حسن الحظ أن اسكندرية بها العديد من المراكز المختلفة الداعمة جدا لنشر الثقافات... من توفير قاعات للعرض... قد تكون هناك مشكلة في الدعم المادي ولكن أتفهم هذه المشكلة لأنها عامة وليست لها حل في الوقت الحالي
حاليا المنتشر أكثر الانتقاد أو بمعنى أوقع الانتقاص وإحباط المحاولات واقتصار الفن على مجموعة من الفنانين المعروفين. .. هذا بوجه عام وغير مقتصر على الفن فقط... انا احب النقد البناء الذي يساعد على التطوير إلى الافضل
وفي مجال التصوير الفوتوغرافي أتواصل دائما مع المتخصصين إلى تقييم أعمالي لاني أسعى إلى الأفضل وتعلم المزيد من الخبرات...
بالطبع المعارض أسهمت بشكل كبير في زيادة الوعي الفني عند الأفراد وخصوصا في مجال الفوتوغرافيا... وقد ساعدت أيضا مواقع التواصل الاجتماعي على انتشار الفنون وتعريف الأفراد بالمعارض والأنشطة المختلفة
في الماضي كان يقتصر احيانا الحضور على نوع معين من الفنانين والمثقفين ولكن الاحظ الان ان الدائرة في اتساع لتشمل مختلف المجالات والتخصصات.. واتمنى المزيد في المستقبل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سارة زهير... مصورة سكندرية الميلاد والنشأة، درست الهندسة المدنية ولكن شغفها الأكبر كان هو التصوير الفوتوغرافي الذي سيقودها يوما ما الي الجنون (حسب قولها). بدأ الأمر حينما كانت في العاشرة من عمرها بكاميرا كوداك فيلم قديمة. ابهرتها الأزرار والعدسات والأفلام. منذ عام 2011، بدأ شغفها يأخذ مسارا احترافيا كمصورة حرة وقدمت العديد من الورش التدريبية في كل من مركز الجيزويت الثقافي ومدرسة الليسيه الفرنسية وفي نادي فيوفيندرز.
كما اشتركت في 36 معرضا بداخل مصر من تنظيم معهد جوته ومركز الدراسات السكندرية والمركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية ومركز الجيزويت الثقافي واتيليه الإسكندرية ومكتبة الإسكندرية... الخ، هذا بالإضافة إلى ه معارض دولية في ألمانيا وتونس ورومانيا.
وقد حصلت على العديد من الجوائز عن أعمالها الفنية المعروضة محليا ودوليا. وقد أقامت اول معرض منفرد لها في الإسكندرية تحت عنوان "الرحيل" في سبتمبر 2017، احتوى المعرض على 104 صورة.
لا ينصب اهتمام المصورة على المجسمات ولكنها تتبع قصة في مخيلتها واحساسا في قلبها؛ فاللحظات الثمينة تستحق أن نتذكرها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق