راضي جودة يدون أوجاعه في فاصلة تتعثر
الفن التشكيلي الوجه الآخر للنثر وشعر الحداثة
قراءة نقدية : أسامة عبد المقصود
خذها كما هي كلماتي .. وابعدني عن خطوطك الحمراء، هكذا افتتح الكاتب والفنان التشكيلي راضي جودة كتابه
الذي يحمل عنوان فاصلة تتعثر بجملة أذابت ما بينه وبين القارئ، وبهذه اللمحة فتح الستار على ما سيأتي من أفكار، وعلى من يتناول الكتاب أن يحاول الوصول إلى ما يهدف إليه، وكأنه يحاول الخروج من عباءة الريشة والألوان التي ترسم خطوط تؤول دائما بتفسيرات تعود إلى وجهات النظر وما يدور في مخيلة المشاهد للوحات التى أبدع في اخراجها طوال السنين الماضية . وضح الكاتب راضي جودة في مقدمة الكتاب أسم الكتاب حين أشار إلى تلعثم الكلمات وضياع الفاصلة المتعثرة ، فالفاصلة هي من الأدوات المهمة التى تعطي للقراءة متعة وتنظم نفس الجملة، كما يقول في نهاية الأبيات التى توج بها مقدمته، حينما تتعثر في فمي العبارة ، وتتعثر الفاصلة .. أتعلق بأحبال الكلام عند حافة القلم وأدون أوجاعي ، ربما يشير إلى الوجع الأشمل وهو عدم استطاعته التعبري عن تلك الأوجاع. للقطار أغنية يدندنها فوق هالك القضبان ..
بحشرجة زاعقة تيك تتك تيك ..
ويدون مع قطرات المطر كلمات ..
ما فاتك مل يكن لك
وكل ماهو لك سوف يأ تيك تتك تيك ،
حاول الكاتب أن يمزج الرباعيات مع أبياته الحديثة الموجهة في شكل الراوي أو الحكيم، وهذا يعكس خبرته للتعايش مع المتغريات المحيطه به على مر السنين التى عاشها مع القلم والريشة، وتلك الكلمات تنم عن ادراك جودة راضي بمعنى الحياة وما آلت إليه فكرة الحياة، ومعرفة الدنيا وإيمانه الدفين بمعنى القدر، ويظهر في هذه الأبيات برداء الواعظ العالم بمقدرات الأمور، وحين استخدم كلماته في النصيحة اختار أفضل المرادفات التى تثلج القلوب ولا تعكر صف التوجيه والتنظير، فاستخدام مفردة أغنية ويدندنها تستدعي لحن وان كان على القضبان فهو لحن مرتب غير شاذ ولا أظن انه يساعد على التلوث السمعي لأنه باختصار ومن وجه نظر الكاتب عبارة عن أغنية مصحوبة بلحن، وزاد الشطر بكلمة قطرات المطر ، وهذه أيضا من المفردات التى تدغدغ المشاعر وتستدعي لفحات الهواء الباردة وهي تداعب خصيلات الشعر. في الفقرة العاشرة من كتاب فاصلة تتعثر أعلن الكاتب عن واحدة من عقائده وطرح نبذة عن موروثه الثقافي وإرثه التراثي حين قال فيها غبي من لا يرفع أكف الضراعة.. ويدعوا الله لسلامة الوطن وهذه الفقرة تحث القارئ وتشعره براحة نفسية، فعشق الوطن والإيمان بالقضايا القومية من دوافع المبدع للإبداع والابتكار، ويقول الكاتب تلك الفقرة التى اختار لها رقم عشرة مال له من خصوصية عند العرب وانه رقم القيادة ورؤوس الحربة على مر التاريخ الرياضي، وربما لكون هذا العدد يعد الخط الفاصل بين الأحاد وبداية العشرات، اذا لاهمية العدد توجه راضي جودة لنعت من يحارب وطنه بالغبي وهذه من المفردات اللغوية المعبرة عن التخلف والرجعية الفكرية، وأن الغبي في الموروث الأدبي هو الشخص الذي يمتاز بالعناد ويصر على رأيه ولا يحيد عن فكره ولو كان خطأ، والأهم من ذلك هو إيمان الكاتب بأهمية الوطن، بخلاف من يناشد بأن الوطن مجرد حفنة تراب، بل زاد الكاتب من رؤيته تجاه هذا المفهوم بالدعاء له بالسلامة وهذا هو أقل الأفعال ارهاقا. ارتقى الكاتب راضي جودة من فكرة الكتابة والفكر إلى مرتبة الفلسفة والإبداع حين ذكر فكرة مغايرة تماما عن وظائف التذكرة، يقول : اشتريت تذكرة .. منحتني أجنحة للطيران .. وتذكرة أخرى.. ابقتني مسمار في مقعد .. بعض التذاكر تجلب الجنائز والثكالى وتعرقل سير المركبات وهذا يشري إلى احترافية الكاتب في تطويع الفكرة وصناعة الجملة واستخدام الكلمات المعبرة عن الحالة التى يمر بها ويتعايش معه، فدور التذاكر غالبا ما يكون من باب المتعة أو التقرب للأحبة أو البعد عنهم وفي كل حال التذاكر ستظل تستدعي في أدب راضي الجنائز والثكالى . خرج راضي جودة بأبيات ..
أسوار بعض مدائننا..
بنيت من جماجم مخاصين
لم يتمكنوا من البقاء أحياء..
وسط عصابة من المنتفعين
رصد هذه الحالة باتقان وبتصور مختلف في ابيات اشبه بالرباعيات، والفكرة سهلة وبسيطة وتحت رؤية الجميع لكن الإبداع الحقيقي يكمن في التنقيب عن الفكرة وبلورتها بأسلوب مفهوم وسلس، حني فسر أن الاسوار مصدر الأمان كانت نتيجة طبيعية ان تبنى من جماجم كل من أحب مدينته وضحى من أجلها، صور راضي جودة الابيات بريشة فنان تشكيلي محترف، ولم يتمكن في هذه الأبيات أن يخلع عباءته للفن التشكيلي ورسم الصورة هذه المرة بالقلم، وأشار إلى أن من وضع جمجمته موضع اللبنة للبناء والتأسيس لم يكن منتحرا أو راغبا في الموت بقدر ايمانه بترسيخ الأمن والسلامة لمدينته ومن يعيشون فيها. جاءت رباعية أخرى تنذر بموعد الحق وتتحدث عن هول الموت ووجوده حيث يقول فيها نافذة تطل على مقبرة.. ومذياع يصدح.. بصوت مجلجل ..هنا الأخرة يتحدث في الرباعية عن هم الموت وقضيته في قالب شعري أقرب لناقوس الخطر وإنذار أصفر، وكأنه يؤكد على ان الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فهاتان الصورتان يشتركا في القصد وأن المذياع لا يسمعه إلا من آمن بفكرة الموت وتعمق فيها وفهم معنى الحياة. خاطب راضي جودة في رباعية المجهول الذي يخشاه الناس قائلا : يا أنت.. جئت تلعق موت ألواني.. أم تتذوق ألوان موتي في هذه الكلمات معاني كثيرة رمى إليها الكاتب مستعين بالقلم متنازل عن الريشه، وكأن القلم أقدر على التعبري في هذه الحالة من الريشة، وحاول أن تكون اللغة في هذه الأبيات مبنية على لغة الكلام التى يحترفها القلم وتفشل فيها الريشة، الكاتب في هذه الأبيات انشق نصفين وحاول أو يدافع عن لوحاته وفنه وابداعه كفنان تشكيلي وكونه كاتب محترف صناعة القلم، واجتمع الأدب والفن التشكيلي على المجهول الذي يخاطبه من أعلى موضحا بأن الألوان التي ماتت مازال يطلق عليها لفظ لون فاللون وان بهت فمازال لون ويتحول إلى شكل اخر بمفهوم أخر،. وفي ابيات أخرى عنف المجهول حين قال يا أنت.. كم جنيت .. على عصفور ترك صوته.. بنافذة الزنزانة نفس المجهول جنى على عصفور حبيس، ولفظ الحبس في الأدب لا يعني إلا السجن والطائر غالبا ما يكون رمز للإنسان الطليق صاحب الفكر، وغالبا ما يؤثر المجهول في الرؤى ويحولها من فكرة إلى وهم وفي هذه الحالة يموت صاحب الإبداع تاركا من خلفه ومضات من اعماله التي قد لا يفهمها الكثير إلا بعد تركه لصوته في الزنزانة . قد يعتقد البعض أن راضي جودة في هذه العبارة ينعي نفسه وعن مضيه لسنوات ينحت في الصخر لإثبات ذاته وانما من يعرف الكاتب يدرك انه لا يكتب لمجرد الشعور بالكتابة وانما يكتب لمتعته الشخصية أولا ثم امتاع القراء بما يكتب ويبدع، نفس طريقته في الفن التشكيلي، فلوحاته لا تشير إلا لذاته ومتعته واختياره للألوان والخطوط نابع من عشقه للطبيعة والمتأصلة في الموروث الثقافي الذي أتى منه، فذاكرة الكاتب معبئة مبخزون وافر من الافكار والأحلام، أما ما يشير له في هذه الأبيات عبارة عن خطة واعظ أو راوي حكيم توصل لحقيقة أراد أن ينشرها فيقول الاغتراب.. يضعك في خانة الغرباء.. دون المواطنة.. مهما قدمت للوطن البديل.. فمواطنيهم هم الاساس ..ونحن مجرد أوراق.. وارقام داخل سجلاتهم.. تتبرأ منها الأقلام يركز الكاتب هنا على فكرة الاغتراب ومن جهة اخرى يوصي بحب الوطن والتمسك به مهما كانت ظروفه الاقتصادية والاجتماعية لان الفرد يظل مواطنا حقيقيا داخل اسوار مدينته، واذا خرج فصار مغترب لا أصبح عبارة عن رقم في سجلات كثيرة. يصر راضي جودة على أن العلم والمعرفة ليسا بكثرة التحصيل العلمي فقوله شهادة الدكتوراه.. لا تثبت علما ولا تنفي جهلا جاءت لتعكر صفو كل من اغتر وتطاول بمنزلته العلمية على من هو عالم بمواطن الأمور، يثبت راضي جودة أن العلم والمعرفة لهما اساس واحد وهو عشق المعرفة ونشر الثقافة والايمان بالتنوير والوعي الراسخ في عقيدة المطلع الواعي المهتم بقضايا وطنه وأمته العربية والإسلامية، كما يشير إلا أن القيادة وليدة الفطرة والعلم يطورها ويصقلها وأنها تولد مع الشخص وليست مكتسبه، فليس كل دكتور في علم الإدارة يصلح أن يكون مديرا وقائدا، فالممارسات وبنك المعرفة والخبرات يحول الشخص من مجرد ملقن لمبدع وفنان، وياحبذا لو أن الدكتور في المجال يتمتع بالمعرفة والخبرة والاتقان. تمكن الكاتب والفنان راضي جودة من سرد مقتطفات رباعية وقصائد طويلة في كتابه فاصلة تتعثر ، من رسم خطوات مبعثرة تكون في النهاية لوحة دسمة من الأفكار المرسومة بالقلم، واعطى لنفسه الحرية المطلقة في التنقل بيسر وحرفية بين القصائد ليكون عند القارئ صورة ذهنية ترسخ فيه بعض التعاليم والمفاهيم العامة، واذا كان الكتاب متنوع القضايا إلا أن هناك رابط بين كل القصائد تتمثل في لغة الكاتب ومفاهيمه وثقافته وتخيله، والخيط الرفيع بين القصائد مع اختلاف تناولها إلا انها ترتبط في الفكرة واسلوب العرض مختلف عن رباعيات الشعراء الأخرين، خاصة وأن الكاتب طرح وجهة نظره وايمانه ببعض القضايا بصورة فنية غاية الروعة. .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق