راضي جودة
* اليحيا مدرسة متفردة في التأمل والبحث وراء الفكرة .
* الفنان الذي اشتهر كرائد من رواد الفن التشكيلي كان يتمتع بجملة من المواهب مثل الشعر والكتابة والترجمة
سوف يقف عشاق الفن التشكيلي طويلا أمام تجربة الفنان السعودي الرائد عبد الجبار اليحيا ـ يرحمه الله ـ ليس فقط لأنه فناناً عصامياً درس الفن بشكل شخصي معتمداً على الثقافة والإطلاع والاحتكاك بالفن والفنانين ، وكذلك الحياة في أكثر من عاصمة ، ولكن لفرادة التجربة وتميزها في الواقعية الرمزية التي كانت ركيزة مهمة أعتمدها وأخذ بها لتسجيل الحالة الإجتماعية وتطورها في مجتمعه ، مدرسة متفردة في التأمل والبحث وراء الفكرة من نشاط السوق وحركة الناس بالشوارع إلى الداخل وما يدور في بعض الغرف بين أفراد الأسرة .
حين يبدأ الفنان الدخول إلى بياض اللوحة تدور برأسه أشكال وألوان وأصوات تتفاعل مع حركة الفرشاة كلما مررها على تلك المساحة ، تلك الحالة التي يمر بها الفنان تشبه إلى حد بعيد حالة المخاض ، ولذلك ليس بمستغرب ان يكون النشاط اليومي للمجتمع هو ذلك الحافز الذي يدفع الفنان عبد الجبار اليحيا للدخول إلى البياض ، والكاتب كمال ممدوح حمدي التقط هذا الخيط وقام بتسليط الضوء على أحد اللوحات في مقال تحت عنوان ( الرؤية عبر الجدران ) وهي لوحة لفتاة تتحدث مع شخص مجهول من خلال باب موارب يمنح لنا التصور عن هذا الطارق الذي يبدو غريب عن أهل البيت ، الدخول هنا لعقل الفنان لا يقل أهمية عن الخصوصية التي تحاول اللوحة الإفصاح عنها لحالة الفتاة تختصر تربيتها والبيئة التي أنشأتها جميعها عوامل تتجمع خلال العمل ، الضوء الخافت الذي يغمر اللوحة وبصيص الضوء الذي يحاول ان يجتاز الباب الموارب ، لوحة تختص الكثير من الكلمات وتفصح عن ثقافة الفنان اليحيا ، وهنا لوحة الأخبار حيث يتجمع أهل البيت للإستماع لتفاصيل الخبر حول المعارك ، حالة من الترقب والفزع كادت أن تنطق بها اللوحة ، ولوحة أخرى التقط فيها اللحظة الإنسانية الفارقة عندما يخرج الجندي إلى جبهة القتال مودعا أبناءه ، ومن أقدر من عبد الجبار على تصوير ذلك وهو من جرب الغربة المريرة ، كما العمل في قطاعات عسكرية متنوعة . للفنان عبد الجبار اليحيا لوحة يمكن أن توثق وتسجل بتوقيع المملكة العربية السعودية في مرحلة البناء تلك اللوحة التي تجاوزت التنظير والنقد إلى تسجيل حالة إنسانية للمجتمع غاية في الرقة والبراعة عندما ترفع الفتاة كلتا يديها لتقديم مواد البناء لمن يبني الدار واضع قدما عند درجة بناء أول والقدم الأخرى في الدرة التي تعلوا ذلك ، الترميز هنا بالعلو والارتفاع ومد اليد لأقصى مستوى وتعاون العنصر النسائي داخل اللوحة هذا التداخل المجتمعي الجميل لم كل تلك التفاصيل التي يقصر أمامها الوصف بالكلمات لأن احساس الفنان هنا كان متجاوزا بشكل حقيقي ، ولعلي اختتم باستعراض لوحة السوق والحالة التي يبدو فيها التحاور حول السعر وجودة المعروض ، وشكل الملابس ، ووجود الرجل الذي يشتري من البائعة الأنثي ، وغير ذلك إن الحديث هنا حول عبد الجبار اليحيا باعتبار انه فنان تشكيلي قد يعتليه بعض القصور فالرجل كأنه أحد علماء علم الإجتماع يقدم لنا وجبات شهية من طعام هذا المجتمع شارحا لشكل الأزياء ملونا البيوت والفراش داعيا الناس للإقتراب لتلك البيئة المتميزة بخصائص عريقة يلفها الحب والدفء والوداعة والخوف من المجهول ،
ولأنني هنا لا احاول التعبير والوصف لتصوراتي أمام تلك الأعمال ولكنها محاولة للكشف مشاعر واحساس الفنان فقط بقدر ما هو تقديم دلالة فكرية وضوء مباشر لما يتمتع به الفنان الراحل ورؤيته للأشياء .. لقد كنت من سعداء الحظ الذين اقتربوا من عالمه والتحاور معه في خصائص الفن وحول تجربته العصامية الثرية التي تحتاج لدراسة متكاملة حول مشروعه الثقافي الذي لم يكتمل رغم تأسيسه مع صديقه وزميله دربه الفنان سعد العبيد لجماعة ألوان التشكيلية .. كانت حوارات غنية بالعلم والمعرفة وذكريات الكتابات الأولى للصحف من خلال عمله الصحفي الذي بدأه بجريدة المدينة عام ١٩٦٧م حيث خصصت أول صفحة للفنون التشكيلية في الصحافة السعودية والمجلات .
كانت سجايا الرجل وثقافته ووعيه جاذبة لكل طامع في فهم أو باحث عن معرفة ، عبد الجبار اليحيا الفنان الذي اشتهر كرائد من رواد الفن التشكيلي كان يتمتع بجملة من المواهب مثل الشعر والكتابة والترجمة وغيرها فلا يعرفها إلا القليل عن هذا التشكيلي الشاعر والأديب المفكر وهذه بعض أبيات من قصيدة يغازل بها الرياض :
كيف أنسى؟
وقع موسيقى اللقاء
كيف أنسى عطرها؟
ما تبقى عابقا
بين ذرات الهواء
كيف أنسى أملا
شق لي درب الحياة.
ونجده من فرط إعجابه بالرائد عبدالكريم الجهيمان وتقديره لدوره في المجتمع يوجه له رسالة يقول فيها:
يا رجلا قد من فخر الزمان
هلا تريثت قليلا!
ومسحت عن جباهنا مر الكلام
هلا أعدت لنا الغرس الجميل
ورويت لنا، قصص الشعب النبيل.
--------
يا راوي الشعب
احكِ لنا، عن صبرك
احكِ لنا، عن اقاصي نجدك
احكِ لنا، ما حكاه جدك
احكِ لنا، عن البطون الخاوية
احكِ لنا، عن الأيادي الخالية
احكِ لنا، عن نضوب الساقية
احكِ لنا، عن الجراد غذاء للحفاة
والتمر أماني..
أحكِ لنا، عن عزة القوم
وأحزان الحياة.
--------
هلا تريثت قليلا
لم أختتم بعدّ كلامي
وكلامي غائر مثل الندوب
من الشمال إلى الجنوب.
ومن كلامه عن الفن التشكيلي ، قال: «.. إن الفن التشكيلي بحد ذاته فن نخبوي، ومع وسائل الأعلام الحديثه وانتشارها الواسع ومع تنوعها بين محلي وفضائي بدأ هذا الفن يحصد شعبية جيدة حتى بات ضرورة من ضروريات الحياة لأنه يطرح فكرا ورأيا.. والإنسان بدون ممارسة فكره ورأيه لا يصبح إنسانا متكاملا..
كما يقول : عن مستوى الفن التشكيلي في المملكة.. «في الواقع الآن عندما أنظر إلى ثلاثين سنة إلى الوراء وأجد عدد الذين يرسمون لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة والآن أجد حوالى الثمانين معرضا يقام سنويا في المملكة يشارك فيها حوال ثلاثمائة فنان فأتصور البعد الشاسع بين البداية وما وصل إليه الفن السعودي حاليا... الآن الفنانون السعوديون بات بإمكانهم أن يقفوا على مصاف الدول العربية بل إنهم يتعدونها في كثير من الأحيان.. ».
الفنان اليحيا ضمن كوكبة ممن ينادون بأهمية الوعي .. الوعي في المطلق .. الوعي بما تملك قدرات وطاقة ، الوعي بما يمكن أن تقدمه ويكون مفيدا للناس ، والوعي بقيمة الوقت .
من الصعب التعبير عن مدى حزني لفقد ابو مازن أخي الكبير العزيز ولكن تبقى في الذاكرة تلك اللحظات الجميلة التي أتذكرها معكم حول فنان صديق صعب ان يتكرر .
لك التحية
ردحذفلك المحية