فريدة كهلوا
المرض و الإبداع المر
بقلم ـ راضي جودة
عناوين جانبية مقترحة
ـ النقاد كانوا يصنفون أعمالها ضمن الاتجاه السريالي
ـ استطاعت عبر لوحاتها أن تجعل المتلقي يرى الألم أرضاً واقعية
ـ تتميز أعمال الفنانة في ذلك المزج بين الواقعية والسريالية الغير متعمد
ـ كتب دييغو ريفيرا في سيرته الذاتية أن اليوم الذي ماتت فيه كاهلو كان أكثر الأيام مأساوية في حياته
ـ في الفيلم نرى الممثلة سلمى حايك قد تفوقت على نفسها في هذا الدور المعقد والمركب
ونحن إذ نتعرف على بعض التفاصيل من حياة الفنانة المكسيكية الشهيرة فريدا كهلوا نضع في تصورنا النقل الحي لبعض مراحل المعاناة والمرض التي شكلت العنصر الهام والدافع وراء ذلك الانتاج الغزير على الرغم من الحياة القصيرة التي عاشتها بين معاناة مع المرض والمشاكل الزوجية والأخطاء الشخصية التي لا تنفصل عراها عن المكون الحقيقي لكثير من تفاصيل أعمالها الفنية ورموزها وشخوصها والتي تعتبر نموذجا بين الفنانين الإنطباعيين الذين لخصوا أفكارهم في مفردات سهلة ومباشرة دون الاتكاء على أشياء مبهمة وأشكال تتحور داخل العمل لمفهوم مغاير ، وإن كان البعض من النقاد كانوا يصنفون أعمالها ضمن الاتجاه السريالي، إلا أنها لم تدعي ذلك بل كانت تنقل حقيقة ماتراه ، وحقيقة الأمر أن أعمالها لاذعة وصريحة وقاسية وحانية ، وقالت في مذكراتها ـ لم أرسم أبداً أحلاماً ، بل أرسم واقعي الحقيقي فقط ـ،
ولدت الفنانة الرسامة المكسيكية فريدا كهلو دي ريفيرا في ٦ يوليو عام ٧٠٩١م وتوفيت في الثالث عشر من نفس الشهر عام ٤٥٩١م خلفت ورائها تراثاً تشكيلياً كبيراً رائعاً ،
أي أنها عاشت 74 عاما ، وهي واحدة من أربع أبناء لأبوها المهاجر اليهودي الألماني وأمها من ذات الأصل المكسيكي، وفي السادسة من عمرها تعرّضت للإصابة بمرض شلل الأطفال فتأذت رجلها اليمنى، وخلّف ذلك عوقاً بساقها مما عكست تلك الإعاقة أثراً نفسياً سيئاً عليها لفترة طويلة من حياتها، لم ترتدِ الفستان في حياتها إلاّ مع الجوارب الصوفية في عز الصيف كي تخفي أعاقتها ،
ولم تنتهي معانتها عند هذا الحد فقد تعرضت عام ٥٢٩١م وهي في الثامنة عشر إلى حادث باص كان يقلّها إلى منزلها وعلى أثر الحادث، اضطرت إلى التمدد على ظهرها من دون حراك لمدة سنة كاملة، عملت والدتها على راحتها طوال تلك السنة، ووضعت لها سريراً متنقلاً ومرآة ضخمة في سقف الغرفة، فكانت وحيدة وجهاً لوجه مع ذاتها طوال النهار، فطلبت ريشة وألواناً وأوراقاً لترسم، وراحت تنقل صورتها يومياً واكتشفت بذلك حبها بل شغفها للرسم، فريدا لم تدرس الرسم أكاديمياً إلا أنها كانت قد تلقّت بعض الدروس الخصوصية على يد أحد الأساتذة، و استطاعت عبر لوحاتها أن تجعل المتلقي يرى الألم أرضاً واقعية،حياً قبيحاً قاتلاً ومعوقاً، ومن هنا نجد تلك الإجابة على تكرار رسم صورتها في أكثر من وضع بل لعلنا نقول أنها كانت ترسم ذات الشخصية المتوحدة معها بذات الشكل بصفة يومية ، توضيحا للمعاناة التي قد لا يشعر بها إلا من مر بنفس الظروف التي مرت بها دونما الخوض في عشق الذات والنرجسية التي تطغى على معظم الفنانين ولكن تتسرب أوجاعهم خلال تسجيل بعض الأعمال ، وكان الرسم بالنسبة لفريدا ومحور أعمالها الواقع والقدر، إذ نبع ذلك من تجربتها الخاصة في المعاناة، وكان الرسم المتنفس الوحيد لآلامها وعذاباتها وقدرها التعيس، والمعاناة جعلت تجربتها الخاصة منبعاً للخيال، ولم يكن ذلك إلغاء للواقع للوصول إلى مملكة الخيال، إذ أن لوحاتها كانت واقعية قابلة الفهم غير مستعصية الادراك، وفيها الكثير من التوثيقية والتقريرية وواضحة حتى للمشاهد البسيط، رغم أنها تعتبر من أشهر فناني المكسيك ، وأن أعمالها كانت ومازالت إلهاماً لبيوت الأزياء المكسيكية ، وقد تزوجت فريدا كاهلو من الرسام المكسيكي دييغو ريفيرا في أغسطس عام 9291م وقد كان عمرها ٢٢سنة بينما كان عمر ريفيرا ٢٤ سنة ونتيجة لطباعها الصعبة تطلقا بعد عشر سنوات عام ٩٣٩١م ولكنهما تزوجا من جديد بعد عام واحد في سان فرانسيسكو،يذكر أن كاهلو كانت لديها ازدواجية جنسية ، وتلك الإزدواجيه كانت سبباً في مشاكلها أثناء زواجها كما كان يميز الزوجين أنهما متعاطفين مع شيوعيين ناشطين، تصادقت فريدا وزوجها مع ليون تروتسكي الباحث عن ملجأ سياسي بعيداً عن نظام جوزيف ستالين في الإتحاد السوفييتي، عاش تروتسكي في البداية في منزل الزوجين ، حيث حدثت علاقة بينه وبين كاهلو، انتقل تروتسكي وزوجته بعدها إلى منزل آخر في كيوكان حيث إغتيل تروتسكي لاحقا ٠
قبل أيام قليلة من وفاة فريدا كاهلو في ٣١ يوليو ٤٥٩١م، كتبت في مذكراتها أتمنى أن يكون الخروج ممتعا ، وأتمنى أن لا أحتاج العودة أبدا ، ويعود السبب الرسمي للوفاة هو التهاب رئوي، لكن البعض يشك بأن تكون قد توفيت بسبب جرعة مفرطة من العلاج لم تتحدد إن كانت مقصودة من عدمها، ولم يتم تشريح الجثة أبدا ، على اعتبار شدة مرضها خلال السنة الأخيرة وبترت رجلها اليمنى حتى الركبة، بسبب الغانغرينا، كما أصابها التهاب رئوي كما اسلفنا في تلك الفترة، مما جعل صحتها هشّة ،
كتب دييغو ريفيرا لاحقا في سيرته الذاتية أن اليوم الذي ماتت فيه كاهلو كان أكثر الأيام مأساوية في حياته، مضيفا أنه إكتشف متأخرا أن الجزء الأفضل من حياته كان حبه لها ،
يحفظ رماد جثتها اليوم في جرة من الفترة القبل كولمبية معروضا في منزلها السابق * لاكاسا ازول * البيت الأزرق ، في كايوكان ، المنزل تحوّل إلى متحف يضم عددا من أعمالها الفنية ومقتنيات عديدة من حياتها الخاصة ،
وللتعرف على أعمالها الفنية التي يقدر عددها بحوالي ٠٠٢ لوحة في معظمها فن البورترية وذلك الواقع الذي تراه مجسداً في ملامح وجهها ، وفي جسدها المثخن بالجراح الذي حاولت أن تنقل تفاصيله التي تعكس ظاهرها الباطن ، وحاجباها المقرونان كأنهما غراب ينعي تلك النظرات ، التي تبدو باهته في حالات ومتيقظة منبهرة في حالات أخرى ، كما شفتاها المنقبضتان تعبيراً عن مأساتها التي فقدت البوح إلا على مساحة اللوحة وتحملها لآلام شديدة تمزق جسدها ،
أشهر لوحاتها
من أشهر لوحاتها تلك التي صورت فيها ما يشبه عملية نقل قلب منها وإليها رغم الجلوس الذي يبدو رومانسي واللوحة التي صورتها عن حادثة تعرضت فيها سيدة للطعن من زوجها طعنات عديدة حتى فقدت الحياة والذي جعل فريدا ترسم اللوحة لأنها استفزت من كلام المعتدي عند التحقيق بأن تلك كانت مجرد وخزات بسيطة ، كما أن لديها مجموعة من الأعمال تبدو في منتهى الأناقة ولكن يلتف حول رقبتها قرد حقيقي أو فراشات وغيرها من الكائنات، كما لا ننسى الأعمال التي انجزتها خلال فترة النوم السريري وتبقى اللوحات الأنيقة لفن البورترية شاهد على قدرتها الإبداعية .
وأما عن سر تميز أعمالها
تتميز أعمال الفنانة في ذلك المزج بين الواقعية والسريالية الغير متعمد أي اللوحة بين الحقيقة والحلم ، ثم الدخول في موضوعات قد تبدو قاسية مثل الإجهاض أو القتل وغيرها ، تلك التي تتبعثر فيها الدماء وتلطخ المكان ولكن تبقى ألوان فريدا القوية وقدرتها الإبداعية الشخصية في رسم البورتريه يسجلها في مكانها الخاص بين الكبار فإن شخوصها التي لاتشبه أحد آخر تقترب من خصوصية جوجان الذي عمل على تكوين شخوص لا تشبه أحد ، أو لا تتسق مع معاصرية ، ومما يجعلنا نقارن بينها وبين معاصريها على الأقل في المكسيك وأمريكا فإن النقاد لم يركزوا كثيراً على أعمال زوجها دييغو لأن معظم أعماله تمت على الجدران والأسقف مما عرض الكثير منها للتلف والهدم ولكن وجود البيت الأزرق واللوحات المتنقلة والتي رسمت على الورق والقماش جعل التوثيق في صالح فريدا ، تلك هي الفنانة فريدا بتميزها الذي لا ينفصل عن الإنسانة بشخصيتها ومكونها الطبيعي من تناقض بين حب وفن وألم
الاعتراف والتقدير المتأخر
في فيلم فريدا الذي يصور الحياة التراجيدية الصاخبة المؤثرة للفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، بما خلّفت وراءها من تراث تشكيلي، وملامح حياة تجسد مقدار الوجع والقلق والمعاناة الذي لف سنوات عمرها القليلة، مذكرة إيانا بتلك المصائر المأساوية لأصحاب القلوب الكبيرة والمشاعر المرهفة الرقيقة، نلتقي النص الجميل الراقي وكيفية المعالجة الفنية التي أمسكت بالنص، والتفت حوله لتخلق صورة وحدثاً متكاملين، الفيلم يكشف بعض التفاصيل عن مراهقتها عندما كانت تتلصص على دياجو ـ الفنان ـ ولأنها قد كسبت بعض المهارات من والدها الفوتوغرافي ، كما يصور بدقة الحادث الذي تعرضت فيه لإصابات في الظهر ، وكذلك طريقة التعرف على زوجها الذي لم يكن محل ترحيب من الوالدة لسلوكه وزواجه السابق لمرتين متتاليين ، ومن هذا الزوج الشيوعي حاولت إنجاب طفل لكن جسدها لم يتحمل ففقدت ذلك الطفل بإجهاض مما انعكس سلبا على حياتها خاصة بعد وفاه والدتها وطلاق أختها التي سببت لها إزعاجاً فيما بعد ، بقى هذا الزواج 52 عاما تخلله انفصال لمدة عام بسبب تروسكي السياسي الهارب والذي تمت تصفيته بمعرفة الحكومة المكسيكية ، رغم أنها اعتقلت فترة بسيطة للإدعاء بأن زوجها كان وراء مقتل تروسكي ، لجأ الأطباء لوضع قفص من الحديد حول ظهرها لتستكمل حياتها ، وفي الفيلم نرى الممثلة سلمى حايك قد تفوقت على نفسها في هذا الدور المعقد والمركب وهي تترجم الانفعالات الداخلية لدى الشخصية المقهورة عاطفياً والمدمرة نفسياً وجسدياً، غير أن هذه الشخصية لم تكن سلبية بالمرة، فهي تدافع عن نفسها وتقاوم في سبيل الارتقاء بنفسها وبإبداعها حتى تصل إلى الهدف الذي تريده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق