Never Look Away
لا تنظر بعيدا .. والجمال في حقيقته
راضي جودة ـ مصر
عناوين جانبية :
ـ وصية العمة ألا يشيح بنظره بعيدا فالاشياء تبدو جميلة على طبيعتها .
ـ الذين يقلبون الحقائق يشاهدون الصورة لمروج زرقاء وسماء خضراء وسحب صفراء .
ـ اهتم المخرج في التركيز على مشاهد من فنون الحداثة وما بعد الحداثة والرسم في الفراغ .
في الأربع دقائق الأولى من مجريات أحداث فيلم ( Never Look Away ) وكأن المخرج السينمائي الألماني فلوريان هينكل فون دونرزمارك يستعيد ذكرياته عندما رافق والدته إلى معرض Zeitgeist في متحف Martin-Gropius-Bau في برلين ، والذي كان يضم مجموعة من الفنانين من بينهم Andy Warhol و Gilbert & George و Julian Schnabel و Susan Rothenberg. لم تشعل هذه الزيارة اهتمام المخرج مدى الحياة بالفن فحسب ، بل كانت مصدر إلهام لفيلمه هذا ومشهده الافتتاحي ، حيث نرى صبيًا صغيرًا يرافق عمته إلى معرض الفن الحديث عام ١٩٣٧م في درسدن. في حين أن كتالوج المعرض يثمن العودة إلى الفن الألماني عند مشهد التجوال داخل متحف الفن ، والتركيز على مرشد الجولة بطوله الفارع ونظرته البوليسية وحديثه السلطوي ، والذي يبدوا منتقدا لكل ما هو معروض في المكان من لوحات ، ساردا أهمية وصول الاشتراكيين الوطنيين للسلطة ، مما يعني أنهم لن يقبلوا بوجود مثل هذا النوع من الفن الذي يتغير اسمه بين فترة وأخرى ، لكنهم سوف يطالبون بعودة الفن الألماني الأصيل كمنظومة واحدة مع جميع القيم الإبداعية للأمة الخالدة .
شارحا للزائرين : ان الفن الذي نراه أمامنا هنا لا يحقق قيمة أعلى لشعبنا ، بل يسخر من المرأة الألمانية ، ومن الجنود الألمان الذي يمثلهم بصورة قتلة متوحشين من ناحية الصراع الطبقي البلشفي ، وهل يفترض بنا ان نتصور أن هناك رجال لديهم حكم صائب من خلال رؤيتهم لصورة شعبنا في اللوحات التي تظهرهم كمسوخ فاسدين؟ في وجود من يفتقرون للعلم والمعرفة والتجارب سوف يقلبون الحقائق لصنع صورة لمروج زرقاء وسماء خضراء وسحب صفراء بلون الكبريت هذا ضعف في الرؤية وضعف في التعبير ، وبواقع هذه الإنطباعات هم يسعون جاهدين لأسباب أخرى غير الفن لمضايقة الأمة بهذا الهراء وتلك جرائم تقع تحت طائلة القانون الجنائي .
ويستكمل محاولا الاستدلال على كلامه السابق عند لوحة لــ ( ويلسي كاندنسكي ) موجها الكلام لطفل بمصاحبة عمته بأنه قادر على رسم أفضل من هذه اللوحة التي بيعت بمبلغ الفين مارك ، وهذا المبلغ أكثر من مجموع رواتب عمالة ألمانيا ، كان الطفل ( كورت بارنيت ) يتفحص احد المجسمات ويدور حديث مرشد المتحف في عقله الصغير ، كيف ينظر للأشياء بنظرة بعيدة ، لوالده العاطل عن العمل بسبب رفضه للنازية ، واشتياقة لعائلة شرودر الطيبين جيران منزلهم القديم ، وعمته ذات الثلاث وعشرون ربيعا القريبة لقلبه والتي تملىء روحها الموسيقى ، والتي تطلب منه رسم لوحة تمنحه هذا الشعور بالمرح والحياة .
عمته التي توصية في لحظة الرفض للواقع السلبي الذي يعيشه الوطن ، توصية ألا يشيح بنظره بعيدا فالاشياء تبدو جميلة على طبيعتها ، وهم ينزعون الحلم وينكرون الموسيقى والمجرة والحياة بأكملها، بل وينزعونها من أرضها وبيتها واحلامها لتصبح نزيلة احد المصحات العقلية بعد أن قرر حالتها المرضية بانفصام وراثي بما يعرضها وعائلتها للإبادة ، بعد ان تشكلت لجنة من القيادات العليا العسكرية والذي يعلن رأس القيادة بها أن يعلن بكل فخر خطة التخلص من عدد اربعمائة ألف من البشر قائلا : سنعيش في عالم تخلو فيه الشوارع من المنغوليين والمشوهين وذوي الأمراض العقلية والأشكال المتوحشة الأخرى ، ولن تكونوا فقط أطباء أو جنودا ستكونون أعضاء لدى جمعية تحسين النسل ، يجب أن تجعلوا المريض عقيما بوضع علامة سالب زرقاء ، وإذا وجدنا خطا احمر سنعلم أن المريض لا يستحق الحياة ، (قلمك هو السيف) .
يقرر الطبيب القيادي ـ البروفيسور سيباند ـ أن يتم تحول اليزابيث إلى أمرأة عاقر غير قابلة للإنجاب ، ويسجل علامة التخلص منها بعد أن قامت بتعريته أمام نفسه وهي تنادية بصفة (أبي) فيما أتت عائلتها للزيارة وقد ارتدى الجميع الزي الهتلري النازي ، في الوقت الذي كانت هي وزميلاتها داخل غرف الغاز والأفران ، وانتهت حياتها على يد هذا الطبيب الذي لا يحمل قلبا في صدره ، ولا يملك عقله إلا فكرة زرعها قائده بأنه لاتوجد سوى مساحة بسيطة وموارد محدودة على هذا الكوكب .
وينتصر الروس على الألمان وتنقلب الموازين ويصبح الطبيب سيباند سجينا ويقدم المساعدة لزوجة الرائد المسؤول عن سجنه وملاحقته بالتحقيق ويقوم بتوليدها ، ويرد له الرائد الجميل بحمايته ، وبعد أنتهاء الحرب كان من الصعب لروسيا أن تصدق أنه لم يكن نازيا بالفعل ، ويسانده من جديد للهروب ذلك الرائد الذي أصبح جرنال ومسؤول هروبا من تلك المسؤولية في التستر عليه .
ويعود الفن من جديد ليتصدر مشاهد الفيلم بعد بلوغ كورت مبلغ الرجال وخروجه للبحث عن مصدر دخل يعيش منه ، وقد اضطر والده الخائف والمحبط للقيام بتنظيف بعض السلالم ، ثم ينهي حياته بالإنتحار ، كورت صاحب الموهبة تتاح له فرصة الإلتحاق بمدرسة الفنون والتميز بين زملاؤه ، كما تصادف ان تم التعارف بينه وبين ـ إيلي ـ طالبة تصميم الأزياء وأبنة البروفيسور سيباند ، وتكونت علاقة نتج عنه جنين لم يتركه سيباند يكتمل لأب ليس له مستقبل كما يعتقد .. ومسح بيده سلالته وتم هروبه من المانيا ، وفي حالة حزنها على فقد طفلها تذكرت إيلي أن والدها كانت لديه زي الكتيبة ( افن اس اس ) التي تولت برنامج القتل الرحيم ، ولكي تستمر مسيرة الفن كان كل من ـ كورت وإيلي ـ قد اتخذا قرار المغادرة إلى المانيا الغربية والالتحاق بأكاديميتها الفنية التي توسعت في الاهتمام بالفن المعاصر واظهرت لنا بعض التجارب ما بين ثمرة بطاطس معلقة في حبل وتتحرك في دائرة كالبندول ، وفتيات يرتدين كتل من الاسفنج لعمل اختام من اجسادهن فوق قماش أبيض ممتد بطول الممر وووو الخ من فنون الحداثة وما بعد الحداثة والرسم في الفراغ ، كان ذلك في الدقائق الأخيرة من الساعة الثانية من مشاهد الفيلم المثير في فكرته وقصته وأحداثه .
وفي حوار قصير بين كورت وزميل الدراسة والذي أراد تذكيره بأن الرسم قد أنتهى تماما مثل الرقص الشعبي أو صنع الدانتيل أو الأفلام الصامتة ، ولأن لدى كورت قناعته بأن الرسم وسيلته للتعبير عن رؤياه جاءت فكرته في رسم الصور الفوتوغرافية ، وعندما داعبت الريح النوافذ واندمج ضوء مكبر الصور مع اللوحة الموضوعة فوق المسند اوحت له بالأسلوب الذي سارع في تنفيذه ليكتمل مشروعه ضمن البوم الصور العائلية وصور الهواة واتم ذلك بإقامة معرض اشاد به الحضور من النقاد والمهتمين ، ورغم أن المخرج لم يتحرر تماما من سيرة واعمال الفنان الألماني الكبير جيرهارد ريختر ، وأخيرا فقد عبر مذيع التلفزيون عن سعادته بحضور معرض هذا الرسام الذي يعده أفضل الرسامين في جيله ، والذي لا يقول أكثر مما تقول الصور ، وكأنه يودع الحديث عن السيرة الذاتية .. أنه عمل بدون مؤلف.