الجمعة، 23 يناير 2015

ظواهر التجديد في الفن التشكيلي السعودي المعاصر


لا بأس بالفن المعاصر ولكن معاصر لمن 



راضي جودة ـ الرياض

إن إنطلاقة الحركة التشكيلية السعودية في البدايات جاءت لتتواكب مع النهضة الثقافية التي شهدتها المملكة بجملة من الإجراءات تهتم فيها بالتبادل الفكري والمعرفي والانفتاح على العالم بالتوسع في التعليم والتدريب والفنون والآداب ، ومع تلك الإنطلاقة القوية عرف المجتمع السعودي بعض الأسماء الموهوبة والدارسة والتي أخذت على عاتقها البحث عن المواهب وتقديم بعض المشروعات الأدبية والفنية في المدارس والمعاهد . وننظر هنا للجانب التشكيلي والذي ظهر له نجوم وفرسان ، ومن اشهر تلك الأسماء الفنان عبد الحليم رضوي ، والفنان محمد موسى السليم ، والفنان عبد العزيز الحماد ، والفنان عبد الجبار اليحيا ، والفنان ضياء عزيز ، والفنانة صفية بنت زقر ، ومنيرة موصلي، والفنان عبد الله العبد اللطيف وغيرهم من أجيال تتعاقب من الفنانين ممن اقاموا معارض وشاركوا في فعاليات ثقافية .
ومن مظاهر الاهتمام بواقع الفن لم تتوقف الحركة التشكيلية السعودية عند عتبات البدايات ولم تستكين للفكر الواقعي الذي استمد مفردات اللوحة البكر من عناصر البيئة ، وتفاصيل الحياة اليومية واخذت التجارب الفنية تبحث عن الوحدات الزخرفية التي تتزين بها الجدران داخل وخارج غرف المنازل من مختلف المناطق ، وكذلك نقوش الأبواب والنوافذ والرواشين ، والغوص في تفاصيل الحلي والخناجر والسيوف والدلال ، والتي افرزت نظاما للوحات وللاعمال الفنية وكأنها محددات نظم إجتماعية وقواعد للسلوك .
ونستطيع ان نؤكد على أن المذهب الكلاسيكي الأصيل كان وسيلة التعبير وحدها لما يمثل من دراسة وعمق في التفاصيل ولكن كانت اللوحة تتباين بين فناني تلك الفترة ويغلب على معظمها نمط الإيضاح التعبيري والواقعية غير ان الفنان عبد الحليم رضوي الذي درس الفن باسبانيا تبنى تقديم نمطا تأثيرياً يعتمد الدائرة التي تمنح التفاصيل حركة دوران داخل اللوحة ، التي وتدور حول رموز أعطت اعماله خصوصية وتميز وقد حدد رموزه من طيور وأبل واشخاص ، وفي نفس السياق كان الفنان محمد السليم والدارس للفن بايطاليا قد أتخذ الكثبان الرملية مجالاً لطرح ابتكاره الذي اسماه الأفاقية ، 
تصدرت الرئاسة العامة لرعاية الشباب المشهد الثقافي وتم استقطاب بعض الفنانين والفنانات لعمل الورش الفنية والتوسع في المراسم داخل أفرع الجمعية المنتشرة في أنحاء المملكة و كذلك المقر الرئيسي والتعاقد مع بعض الفنانين من العراق ومصر وسوريا والسودان للمشاركة والتدريب وفتح مجال أرحب للإطلاع على التجارب الفنية ، وكذلك الفعل الثقافي المهم جدا والمتجدد دوما بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية والذي امتد لثلاثون عاماً ، وكذلك بعض المسابقات الهامة مثل ( ملون السعودية ) و ( مسابقة السفير ) و ( مسابقة الباحة ) ، وكل تلك المقاصد النبيلة دفعت الفن التشكيلي للأمام وتوالت قافلة المعارض الجماعية التي تنافس على جوائزها المشاركين وظهرت اسماء عديدة منها : ( الفنان على الرزيزاء ، و عثمان الخزيم ، و سعد العبيد ، وكمال المعلم ، وفيصل السمرة ، وعبد الرحمن السليمان ، وعبد الله الشيخ ، وعبد الله ادريس ، ونبيل نجدي ، و محمد سيام ، وطه صبان ، وعبد الله المرزوق ، وسمير الدهام ، و ناصر الموسى ، و هشام سلطان ، وهشام بنجابي ، واحمد فلمبان ، و فهد الحجيلان ، وعلي الطخيس ، وفيصل المشاري ، وشريفة السديري ، وابراهيم النغيثر ، وسعد المسعري ، وعبد العزيز الناجم ، وشادية عالم ، وهدى العمر ، وسامي البار ، واحمد المغلوث ، ويوسف جاها ، وحمزة باجودة ، ومحمد العمير ، وعبد الرحمن العجلان ، وفهد الربيق ، وفيصل الخديدي ، وعبد الله الشلتي ، وعبد الله حماس ، وبكر شيخون ، وابراهيم بوقس ، واحمد الأعرج ، وفايع الألمعي ، ومفرح عسيري ، واعتدال عطيوي ، وعبد الله نواوي ، ومنصور كردي ، وحميدة السنان ، ونوال مصلي ، ورضية برقاوي ، وصالح خطاب ، وعلي الصفار ، واحمد السبت ، وصالح النقيدان ، وبدرية الناصر ، وفايز ابوهريس… الخ ) . ونعترف بالتقصير لو تجاوزنا بعض الاسماء دون قصد لكثرة التجارب في تلك الفترة للأجيال المتعاقبة .
لا شك ان البعثات الدراسية المبكرة صنعت تغييرا كبيراً سواء في دراسة التربية الفنية أو اتساع النشاط التشكيلي ويمكن الرجوع هنا لكتاب ( تاريخ الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية للدكتور محمد الرصيص ) الذي وثق لتلك المراحل بدقة ، انما الموضوع الذي نتناوله الآن هو ظواهر التجديد في الحركة التشكيلية ومن هنا وبعد ظهور أجيال متعاقبة تتنافس بشرف نحو القمة نشاهد تغييرا كبيرا في اللوحة الفنية والنحت والفوتوغرافيا .
وقد تشتمل بعض المعارض على تقنيات مختلفة من التصوير والجرافيك والتصميم ، لم يكن الفن التشكيل مجرد نشاط إنساني يستخدم للترفيه وملء الفراغ بل هو تعبير إنساني عن الفنان وبيئته والعالم المحيط به ، وتلك التجديدات المضافة للأعمال التشكيلية هي تسجيل لنبض العصر وعالمية التواصل ، ورغم تنوع المناهج والأساليب إلا أن هذا التنوع لم يستطيع ان يجعل الفنان منسلخا تماما عن واقعة ومقومات مجتمعة ، ونلاحظ بعض الأعمال التي تحاكي اعمال منتشرة حول العالم وقد يكون في بعضها نسخة كاملة أو جزء مستنسخ ولكن بعد فترة يحاول الفنان ان تستقر أقدامه وتتحقق تجربتة وتظهر قيمتها وقيمها مع كثرة الورش والمشاركات وتكوين جماعات والاحتكاك بالخبرات والسفر وزيارة المتاحف .
ومن هنا نحاول رصد بعض المعارض المتميزة والتي حققت الدخول لتلك العوالم المعاصرة من خلال الفنون الرقمية والذي اتاح المجال لظهور اسماء جديدة دشنت لهذا الفن ، ومعرض التصوير المغاير ، وكذلك معارض مشروعات التخرج وطرق ابواب جديد منها المفاهيمية والرسم في الفراغ والميديا والافلام القصيرة ، والرسم بالإضاءة .
ولا نغفل الدماء الشابة التي فرضت وجودها باعمالها في المعارض الجماعية والفردية واظهرت قوة في الفكر والأداء ، وقد قدموا جوازات مرورهم للقمة بالجرأة في الطرح وفرادة في الأسلوب وتنوع في الخامات وهي مجموعة كبيرة من الفنانين والفنانات ممن تتصدر أسمائهم معظم الأنشطة في الداخل والخارج بتقدير مستحق ، منهم على سبيل المثال لا الحصر : ( محمد الثقفي ، وزمان جاسم ، و فهد خليف ، وحسين المحسن ، واحمد حسين ، وتغريد البقشي ، ونجلاء السليم ، وزهير طولة ، وعبد الناصر غارم ، واحمد ماطر ، وعلي مرزوق ، وطلال الطخيس ، وصديق واصل ، ومحمد الغامدي ، وعبد العزيز عاشور ، وشليمار شربتلي ، ومحمد الرباط ، وناصر التركي ، وعلا حجازي ، وغادة الحسن ، ومهدي الجريبي ، ووفاء بهاي ، وابراهيم الخبراني ، ونجلاء فلمبان ، ومليح عبد الله ، وهناء الشبلي ، ومنال الرويشد ، وعلي الدوسري ، ووهيب زقزوق ، وخالد الصوينع ، وعبد الله الأحمري ، وفهد الرويبعة ، ومحمد السيهاتي ، ومهدية آل طالب ، وعواطف الصفوان ……. مع حفظ الألقاب والتقدير ، تلك لمحات سريعة لظواهر التجديد للفن التشكيلي السعودي اليوم .

لوحات الفنان عبد الجبار اليحيا وثائق إجتماعية ملونة




راضي جودة


* اليحيا مدرسة متفردة في التأمل والبحث وراء الفكرة .
*  الفنان الذي اشتهر كرائد من رواد الفن التشكيلي كان يتمتع بجملة من المواهب مثل الشعر والكتابة والترجمة

سوف يقف عشاق الفن التشكيلي طويلا أمام تجربة الفنان السعودي الرائد عبد الجبار اليحيا ـ يرحمه الله ـ ليس فقط لأنه فناناً عصامياً درس الفن بشكل شخصي معتمداً على الثقافة والإطلاع والاحتكاك بالفن والفنانين ، وكذلك الحياة في أكثر من عاصمة ، ولكن لفرادة التجربة وتميزها في الواقعية الرمزية التي كانت ركيزة مهمة أعتمدها وأخذ بها لتسجيل الحالة الإجتماعية وتطورها في مجتمعه ، مدرسة متفردة في التأمل والبحث وراء الفكرة من نشاط السوق وحركة الناس بالشوارع إلى الداخل وما يدور في بعض الغرف بين أفراد الأسرة .
  حين يبدأ الفنان الدخول إلى بياض اللوحة تدور برأسه أشكال وألوان وأصوات تتفاعل مع حركة الفرشاة كلما مررها على تلك المساحة ، تلك الحالة التي يمر بها الفنان تشبه إلى حد بعيد حالة المخاض ، ولذلك ليس بمستغرب ان يكون النشاط اليومي للمجتمع هو ذلك الحافز الذي يدفع الفنان عبد الجبار اليحيا للدخول إلى البياض ، والكاتب كمال ممدوح حمدي التقط هذا الخيط وقام بتسليط الضوء على أحد اللوحات في مقال تحت عنوان ( الرؤية عبر الجدران )  وهي لوحة لفتاة تتحدث مع شخص مجهول من خلال باب موارب يمنح لنا التصور عن هذا الطارق الذي يبدو غريب عن أهل البيت ، الدخول هنا لعقل الفنان لا يقل أهمية عن الخصوصية التي تحاول اللوحة الإفصاح عنها لحالة الفتاة تختصر تربيتها والبيئة التي أنشأتها جميعها عوامل تتجمع خلال العمل ، الضوء الخافت الذي يغمر اللوحة وبصيص الضوء الذي يحاول ان يجتاز الباب الموارب ، لوحة تختص الكثير من الكلمات وتفصح عن ثقافة الفنان اليحيا ، وهنا لوحة الأخبار حيث يتجمع أهل البيت للإستماع لتفاصيل الخبر حول المعارك ، حالة من الترقب والفزع كادت أن تنطق بها اللوحة ، ولوحة أخرى التقط فيها اللحظة الإنسانية الفارقة عندما يخرج الجندي إلى جبهة القتال مودعا أبناءه ، ومن أقدر من عبد الجبار على تصوير ذلك وهو من جرب الغربة المريرة ، كما العمل في قطاعات عسكرية متنوعة . للفنان عبد الجبار اليحيا لوحة يمكن أن توثق وتسجل بتوقيع المملكة العربية السعودية في مرحلة البناء تلك اللوحة التي تجاوزت التنظير والنقد إلى تسجيل حالة إنسانية للمجتمع غاية في الرقة والبراعة عندما ترفع الفتاة كلتا يديها لتقديم مواد البناء لمن يبني الدار واضع قدما عند درجة بناء أول والقدم الأخرى في الدرة التي تعلوا ذلك ، الترميز هنا بالعلو والارتفاع ومد اليد لأقصى مستوى وتعاون العنصر النسائي داخل اللوحة هذا التداخل المجتمعي الجميل لم كل تلك التفاصيل التي يقصر أمامها الوصف بالكلمات لأن احساس الفنان هنا كان متجاوزا بشكل حقيقي ، ولعلي اختتم باستعراض لوحة السوق والحالة التي يبدو فيها التحاور حول السعر وجودة المعروض ، وشكل الملابس ، ووجود الرجل الذي يشتري من البائعة الأنثي ، وغير ذلك إن الحديث هنا حول عبد الجبار اليحيا باعتبار انه فنان تشكيلي قد يعتليه بعض القصور فالرجل كأنه أحد علماء علم الإجتماع يقدم لنا وجبات شهية من طعام هذا المجتمع شارحا لشكل الأزياء ملونا البيوت والفراش داعيا الناس للإقتراب لتلك البيئة المتميزة بخصائص عريقة يلفها الحب والدفء والوداعة والخوف من المجهول ، 
ولأنني هنا لا احاول التعبير والوصف لتصوراتي أمام تلك الأعمال ولكنها محاولة للكشف مشاعر واحساس الفنان فقط بقدر ما هو تقديم دلالة فكرية وضوء مباشر لما يتمتع به الفنان الراحل ورؤيته للأشياء .. لقد كنت من سعداء الحظ الذين اقتربوا من عالمه والتحاور معه في خصائص الفن وحول تجربته العصامية الثرية التي تحتاج لدراسة متكاملة حول مشروعه الثقافي الذي لم يكتمل رغم تأسيسه مع صديقه وزميله دربه الفنان سعد العبيد لجماعة ألوان التشكيلية .. كانت حوارات غنية بالعلم والمعرفة وذكريات الكتابات الأولى للصحف من خلال عمله الصحفي الذي بدأه بجريدة المدينة عام ١٩٦٧م حيث خصصت أول صفحة للفنون التشكيلية في الصحافة السعودية والمجلات .
كانت سجايا الرجل وثقافته ووعيه جاذبة لكل طامع في فهم أو باحث عن معرفة ، عبد الجبار اليحيا الفنان الذي اشتهر كرائد من رواد الفن التشكيلي كان يتمتع بجملة من المواهب مثل الشعر والكتابة والترجمة وغيرها فلا يعرفها إلا القليل عن هذا التشكيلي الشاعر والأديب المفكر وهذه بعض أبيات من قصيدة يغازل بها الرياض :
 كيف أنسى؟

وقع موسيقى اللقاء

كيف أنسى عطرها؟

ما تبقى عابقا

بين ذرات الهواء

كيف أنسى أملا

شق لي درب الحياة.


ونجده من فرط إعجابه بالرائد عبدالكريم الجهيمان وتقديره لدوره في المجتمع يوجه له رسالة يقول فيها:

يا رجلا قد من فخر الزمان

هلا تريثت قليلا!

ومسحت عن جباهنا مر الكلام

هلا أعدت لنا الغرس الجميل

ورويت لنا، قصص الشعب النبيل.

--------

يا راوي الشعب

احكِ لنا، عن صبرك

احكِ لنا، عن اقاصي نجدك

احكِ لنا، ما حكاه جدك

احكِ لنا، عن البطون الخاوية

احكِ لنا، عن الأيادي الخالية

احكِ لنا، عن نضوب الساقية

احكِ لنا، عن الجراد غذاء للحفاة

والتمر أماني..

أحكِ لنا، عن عزة القوم

وأحزان الحياة.

--------

هلا تريثت قليلا

لم أختتم بعدّ كلامي

وكلامي غائر مثل الندوب

من الشمال إلى الجنوب.

ومن كلامه عن الفن التشكيلي ، قال: «.. إن الفن التشكيلي بحد ذاته فن نخبوي، ومع وسائل الأعلام الحديثه وانتشارها الواسع ومع تنوعها بين محلي وفضائي بدأ هذا الفن يحصد شعبية جيدة حتى بات ضرورة من ضروريات الحياة لأنه يطرح فكرا ورأيا.. والإنسان بدون ممارسة فكره ورأيه لا يصبح إنسانا متكاملا..

كما يقول : عن مستوى الفن التشكيلي في المملكة.. «في الواقع الآن عندما أنظر إلى ثلاثين سنة إلى الوراء وأجد عدد الذين يرسمون لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة والآن أجد حوالى الثمانين معرضا يقام سنويا في المملكة يشارك فيها حوال ثلاثمائة فنان فأتصور البعد الشاسع بين البداية وما وصل إليه الفن السعودي حاليا... الآن الفنانون السعوديون بات بإمكانهم أن يقفوا على مصاف الدول العربية بل إنهم يتعدونها في كثير من الأحيان.. ».

الفنان اليحيا ضمن كوكبة  ممن ينادون بأهمية الوعي .. الوعي في المطلق .. الوعي بما تملك قدرات وطاقة ، الوعي بما يمكن أن تقدمه ويكون مفيدا للناس ، والوعي بقيمة الوقت .
من الصعب التعبير عن مدى حزني لفقد ابو مازن أخي الكبير العزيز ولكن تبقى في الذاكرة تلك اللحظات الجميلة التي أتذكرها معكم حول فنان صديق صعب ان يتكرر .